“لا بد من قارعة”!

كانت تلك عبارة ملهمة أطلقها “سعد زغلول” قبيل ثورة (1919).

عندما تستغلق الخيارات الاعتيادية لحفظ احترام البلد لنفسه، وتأكيد حقوقه على أرضه تتبدى “القارعة” خيارا إجباريا.

لا تدفع أوضاع البلد الاقتصادية والسياسية للاعتقاد، بأنه جاهز لخيار الحرب دفاعا عن السيادة المصرية على سيناء، لكنه لا يمكن استبعاده، مهما كانت تكاليفه وأعبائه.

البديل أن تتمرغ سمعته في التراب، وتتحلل قيمه الأخلاقية على ما حذر الفريق “عبد المنعم رياض”، عندما أسندت إليه هيئة أركان القوات المسلحة إثر هزيمة يونيو (1967).

قال لـ “جمال عبد الناصر”: “أرجوك يا سيادة الرئيس ألا تقبل سلاما مع إسرائيل، حتى لو أعادت كل الأراضي المحتلة بدون قتال، إذا لم نقاتل، فإن كل معنى سوف ينهار في هذا البلد”.

نفس المعنى يكاد يتكرر الآن، إذا لم ندافع عن سيادة سيناء، فإن كل قيمة سوف تتقوض، ولا يكون بوسع مصر أن ترفع رأسها مرة أخرى!

“طبول الحرب” تدق من حولنا عند الحدود الشرقية، والتحرش الإسرائيلي وصل إلى مستوى غير مسبوق في الاستهانة بأية التزامات، يحتمها البروتوكول الأمني لاتفاقية “كامب ديفيد”.

إذا ما أقدمت القوات الإسرائيلية على اجتياح رفح الفلسطينية بقرب الحدود المباشرة مع مصر، وهجرت بترهيب السلاح مئات ألوف الفلسطينيين إلى داخل سيناء، تسقط في نفس اللحظة اتفاقية “كامب ديفيد”، التي أسست لنوع من السلام، أطلق عليه “السلام البارد”.

هناك تحفظ أمريكي معلن على الاجتياح البري لرفح الفلسطينية؛ خشية ارتكاب أبشع المجازر بحق (1.4) مليون نازح فلسطيني، قيل لهم إنهم سوف يكونون بأمان إذا ما لجأوا إليها.

لا يمكن الوثوق والتعويل على ذلك التحفظ، فهو مراوغ ومستعد، أن يوفر الغطاء السياسي؛ للتقتيل الجماعي بادعاء، أنه يمكن حفظ حياة المدنيين بخطة موثوقة ذات صدقية، تلتزم القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني!

إذا لم نعول على أنفسنا، وأن نكون متأهبين لدفع أثمان أية مواجهة محتملة، فإن اليمين الإسرائيلي المتطرف مستعد، ومتأهب للمضي قدما في مشروع التهجير القسري من غزة إلى سيناء.

إنه تقويض للسيادة المصرية على سيناء، وتصفية للقضية الفلسطينية نفسها.

هذا هو الهدف الأعلى للحرب على غزة.

وقد جرت المماطلة في عقد اتفاق هدنة طويلة الأمد، يجري خلالها تبادل الأسرى والرهائن للوصول إلى هذه النقطة.. التهجير القسري.

رغم التنديد الدولي الواسع بالعملية البرية المرتقبة في رفح الفلسطينية؛ خشية مجازرها المتوقعة، إلا أن حكومة “بنيامين نتنياهو” لا تبدي أدنى استعداد للتجاوب مع ضغوطها.

إحدى الفرضيات، أن تستخدم تلك العملية؛ لابتزاز المقاومة الفلسطينية ودفعها لتقديم تنازلات جوهرية، لكن الأرجح حتى الآن أن يمضي التصعيد على الحافة إلى آخر المطاف، أو الاجتياح.

توريط مصر عنوان رئيسي.

هكذا ضرب معبر رفح أربع مرات؛ لمنع دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع المعذب، دون رد فعل يناسب ذلك التطور الخطير.

ترددت أنصاف معلومات وشائعات، دون إيضاح وحسم بخصوص محور “فيلادلفيا” الحدودي، الذي تحكمه قواعد أمنية، تستلزم عدم خرقها، دون اتفاق مسبق بين الطرفين وفق البروتوكول الأمني.

أخطرها ما صرح به رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الجنرال “هرتسي هاليفي”، من أنه يصعب القيام باجتياح رفح، دون تنسيق مع مصر!

إذا لم يكن هناك رد معلن، قوي ورادع، فإنه قد يظن، إذا ما أقدمت إسرائيل على اجتياح رفح، أن مصر تواطأت على الدم الفلسطيني.

في الآونة الأخيرة، بدا أن هناك ضيقا متصاعدا في دوائر صنع القرار.

ترددت إشارات وتسريبات، أن مصر قد تلجأ لتعليق “كامب ديفيد”.

كان ذلك تطورا جوهريا في قصة مصر مع هذه الاتفاقية على مدى أكثر من أربعة عقود.

الكلام عن التعليق، لا الإلغاء.

عندما عقدت تلك الاتفاقية وصفتها صحيفة “الجيروزليم بوست”، بأنها أهم حدث إسرائيلي، منذ تأسيس الدولة عام (١٩٤٨)- الذي كان هو التاريخ نفسه الذي يشير إلى نكبة القضية الفلسطينية، والعالم العربي بأسره.

مهدت “كامب ديفيد” لتوقيع اتفاقيات مماثلة باسم السلام، دون أن يكون هناك سلام.

نزعت عن العالم العربي اعتباره، ومناعته واحترامه لقضاياه.

أسس هذا النوع من السلام؛ لتفكيك الاقتصاد الوطني باسم الانفتاح الاقتصادي وبيع المقدرات الوطنية.

كما أسس لتفكيك نظرية الأمن القومي باسم السلام مع إسرائيل، وتراجع المكانة المصرية في محيطها وقارتها وعالمها الثالث.

استبيح الأمن القومي على نحو غير مسبوق، وبدا الانكشاف الاستراتيجي فادحا في صناعة القرار السياسي، تقريبا فقد استقلاليته ـ تلك قصة مؤلمة ووثائقها معلنة.
غير أن الشعب المصري قاوم ذلك النوع من السلام، ورفض أي تطبيع ثقافي ونقابي وسياسي وفرض كلمته- وكانت تلك قصة أخرى في رد الاعتبار.

استبيح العالم العربي كله، بانكفاء الدور المصري، من قصف المفاعل النووي العراقي، وغزو بيروت إلى تقويض ركائزه المشتركة، بما فتح الطريق إلى اتفاقية “أوسلو”، التي أفضت إلى “سلام بلا أرض”- حسب تعبير المفكر الفلسطيني الراحل “إدوارد سعيد”.. حتى وصلنا إلى مجازر غزة.

ما الخطوة التالية المتوقعة لتعليق الاتفاقية؟!

إنها الحرب.

لا أحد في العالم مستعد، أن يتقبل هذا السيناريو.

لسنا في موقع ضعف، ولا إسرائيل في موقف قوة.

لا بد أن نتصرف بحجم البلد ووزنه.

إذا كان هناك من يريد تجنب اتساع المواجهات العسكرية في الإقليم، ومنع أي حرب محتملة مع مصر، التي تمتلك أقوى جيوش المنطقة حسب التقارير الدولية، فإنه لا بد من وقف إطلاق النار في غزة، وعدم ارتكاب جرائم حرب وإبادة جديدة في رفح، والكف نهائيا عن مشروع التهجير القسري.

تنشئ وتسلح الجيوش للردع أولا.

الكلام الخشن، الواضح والصريح، أحد وسائل الردع لمنع الحرب.

الضعف يغري بالاستهتار والعدوان.

في مثل هذه الظروف، بدا التناقض فادحا بين الإشارات والتسريبات عن تعليق “كامب ديفيد”، وتصريح وزير الخارجية، بأننا متمسكون بها!

اتساق المواقف وجديتها، كما إدراك الحقائق والتعاطي على أساسها مع حركة الحوادث، من ضرورات اكتساب الحقوق، وتأكيد السيادة على سيناء، التي دفعت أجيالا متعاقبة أثمانا باهظة للدفاع عنها وتحريرها.

إننا أمام لحظة فارقة، الأعصاب مشدودة، والتحديات تفرض نفسها.

إذا لم نرتفع إلى مستوى خطورتها، فإن نكبة ثانية قد تحدث، وتضيع معها السيادة المصرية على سيناء.