أصدر رئيس الجمهورية قرارا جمهوريا رقمه 13 لسنة 2024، يقضي بإزالة صفة النفع العام عن أراض ومبان تابعة لـ 13 وزارة وسط القاهرة، منها دواوين رئيسية لعدة وزارات، وتضمن القرار نقل تبعية هذه الأراضي والمباني بالكامل إلى صندوق مصر السيادي، وفقا لقانون الصندوق الذي يسمح لرئيس الجمهورية بإصدار قرارات بإزالة صفة النفع العام عن بعض أملاك الدولة، ونقلها إلى الصندوق؛ تمهيدا للتصرف فيها بطرق مختلفة مثل، التطوير أو البيع أو التأجير أو الطرح للانتفاع أو الاستثمار أو الشراكة، كما حدث من قبل مع أراضي ومباني مجمع التحرير، والحزب الوطني المنحل ومبنى وزارة الداخلية القديم بشارع الشيخ ريحان.
وقد تضمن القرار إزالة صفة النفع العام عن مجموعة مهمة من مباني الوزارات والهيئات العامة، والتي كانت قبل صدور ذلك القرار الرئاسي تدخل ضمن الممتلكات العامة للشعب المصري، وتشمل هذه العقارات مباني وزارت الخارجية والعدل والمالية والتعليم والصحة والسكان والنقل والسياحة والآثار والإسكان والإنتاج الحربي، والتموين وبعض الوحدات التي تشغلها وزارة التنمية المحلية، ومبادرة التجارة الخضراء. وقد نشر ذلك القرار في الجريدة الرسمية في العدد رقم 2 مكرر ب بتاريخ 17 يناير 2024.
وتكمن القضية الأساسية في سلطة التحكم في المال العام، إذ أنه من أهم أساسيات دور الدولة في المجتمعات الحديثة، المحافظة على ثروات الشعوب، وحسن إدارتها وتنميتها، وهذا أعتقد، أنه يشكل عنصرا بالغ الخطورة لدور الدولة الاجتماعي في العصر الحديث، وتبدو أهمية هذا الدور الاجتماعي للسلطات الحاكمة للدول في ظل تطورات النظريات، أو النظم الاقتصادية الغالبة في العصر الحديث، ومن بينها العولمة، واتساع أنشطة الشركات المتعددة الجنسيات، حيث أصبح أمرا حتميا، أن تتعامل الدول ككيانات سياسية مع تلك الكيانات والتيارات الاقتصادية، كما يشكل المال العام، بما يحتويه من موارد طبيعية، وعقارات وأموال منقولة، تسيطر عليها السلطة السياسية الحاكمة للدولة، إرثاً دائماً، وحقاً مملوكاً للشعب في جميع الأوقات، ومن ثم بات الحفاظ عليه من أي شطط أو عدوان، يمثل ًأصلاً قانونياً، علاوة على كونه يُعد من القيم العامة والمبادئ النبيلة الحاكمة للتصرفات البشرية حيال هذه الأموال أو الممتلكات العامة، سواء كانت هذه التصرفات التي تمثل عدوانا، قد أتت من قبل الأفراد، أو تصرفات من الممكن، أن تُنسب للسلطة السياسية بإهدارها أو تبديدها للممتلكات العامة، ويكون ذلك بعدم الحفاظ عليها أو إتيان تصرفات تمس بسلامة أو قيمة تلك الأموال، وبالتالي فإنها لا تحسن استغلالها، أو تنميتها أو الحفاظ عليها، بما تمثله من إرث للأجيال المقبلة، إذا أنه من الضروري، أن يقف دور الدولة عند حدود الحفاظ والتنمية لهذه الثروات الاقتصادية، إن لم يكن زيادة قيمتها.
– ولما كان للمال العام أهمية تنبع من كونه مالاً متعلقاً بحقوق جميع المواطنين بالدولة، ولذلك ارتباط مباشر بمصلحتهم وقضاء حوائجهم، ولذا كان من الأوجب على المشرع، أن يفرد له من النظم القانونية، ما يكفل له حماية خاصة به؛ للحفاظ عليه من أوجه العبث، وأن يكون له سياجاً محكماً من الفعالية العالية في محاولة للإحاطة بأوجه النشاط المختلفة للدولة، والمهام الملقاة على عاتقها. وحيث أن مصادر المال العام المملوك للدولة متعددة، وفي الأغلب لن نستطيع حصرها، ولكن يمكننا القول، بأنها تتأسس على النظم التي تنبني عليها طبيعة ملكية الدولة لهذه الأموال، فالدولة تستصدر ما تراه متماشياً ومتناسباً مع أنظمة وتشريعات، يستنبط منها القواعد الضابطة للملكية العامة، ومن ذلك ما تراه الدولة من تخصيص أو تأمين لوسائل الإنتاج، أو ربما يستهدف إنشاء كيانات بملكية مختلطة أو ملكية تعاونية، وعليه فالأموال العامة التي تقوم الإدارات العامة على إدارتها والتصرف فيها، تكون الأرض أهم أعمدتها، بما تختصه من خيرات من معادن وثروات، أو ما على سطحها من نبات أو مداخيل البيع أو التأجير، أو ثروات حيوانية أو مائية من أنهار وبحيرات، ومما تحتضنه من ثروات حية أو ثروات معدنية.
وتكمن المشكلة في السياق الدستوري المصري في كونه، قد أباح للسلطة التنفيذية بشكل مطلق التحكم في المال العام، دون أية حدود رقابية، حيث هناك فراغ تشريعي دستوري من أية رقابة حقيقية فاعلة، على ما تفعله السلطة التنفيذية في المال العام، ويكون ذلك في كون رئيس الجمهورية يصدر قرارات رئاسية، بنزع صفة النفع العام عن أية أموال أو ممتلكات عامة، وتحويلها إلى ملكية خاصة للدولة، وبالتالي يحق للسلطة التنفيذية التصرف الكامل في هذه الأموال، وهو ما حدث للمرة الثانية، وتحويل تلك الممتلكات على الصندوق السادي، كما سبق وأن تم تحويل ملكية مجمع التحرير، وبعض العقارات الأخرى لملكية الصندوق.
وبشكل رئيسي، وحتى لا يكون هناك شطط في التفكير، فإن الأمر لا يكون بهذه الصورة من الإطلاق، إذ أنه يجب أن تكون هناك طرق؛ لتفعيل رقابة حقيقية على حدود ومدى نفاذ تصرفات السلطة التنفيذية في حق الأموال العامة، بحيث يجب أن يتم عرض الأمر على سلطة رقابية، تمثل الشعب كله، لكون الأمر يتعلق بملكية، تخص جميع المواطنين، خصوصا إذا ما كان الأمر يحمل بين طياته الرغبة في بيع تلك الأموال التي كانت قبل صدور القرار الجمهوري، تتمتع بصفة النفع العام، وقد صدر خلال السنوات الأخيرة العديد من القرارات التي نقلت الأموال العامة إلى أموال خاصة، وذلك بإزالة صفة النفع العام عنها. هذا بخلاف كون الصناديق السيادية، يجب أن يكون تفعيلها من خلال الفوائض المالية، كما أنها يجب أن تسعى لحماية ثروات البلاد، والسعي نحو تحقيق التنمية المستدامة، لكن كل هذا لا بد، وان يتم تحت إشراف رقابة شعبية أو برلمانية على المال العام، إذ لا يحق أن تكون هناك أي سلطة لها الحق في التصرف بالإرادة المنفردة لها، دون أي رقابة شعبية تمثل ضمانًا لحماية المال العام، وممتلكات الشعوب، وذلك بحسب القواعد الدستورية والحقوقية المعنية بهذا الإطار الهام، والذي لا يهم فقط الأجيال الحالية، بل يهم الأجيال المستقبلية، لما لهم من نصيب في ثروات البلاد.
حتى وفي ظل الظروف الاقتصادية الطاحنة التي يمر بها الشعب المصري، وازدياد رقعة الفقر، وتكالب الديون على الأمة المصرية، وارتفاع الأسعار بشكل جنوني، وانخفاض قيمة العملة المصرية، فإن ذلك جميعه لا يكون مبرراً، أو سبباً دافعاً؛ لاتخاذ أية تصرفات ذات مساس بالمال العام، دونما العرض على مجلس النواب أو الاستفتاء الشعبي.