ثلاث ملاحظات أولية، يمكن من خلالها إعادة رسم دور مصر في الإقليم الذي لا يكاد يهدأ، حتى تشتعل الاضطرابات فيه. في تقديري؛ فإن المنطقة لن يكتب لها الاستقرار، حتى تتم معالجة الاسباب الهيكلية التي تقف خلف انعدامه، وهو ما أطلقت عليه في مقال سابق “فخاخ الاستقرار”.

يقصد بفخاخ الاستقرار، تلك الساحة التي تتراكم فيها تناقضات ومهددات مرتكزات الاستقرار التي تتغذى أساسا من مخاطر التقلبات الجيوسياسية، والمظالم الاجتماعية والسياسية، ولا يتم معالجتها. إن السعي لتحقيق هدف الاستقرار قصير الأجل قد يأتي في بعض الأحيان، على حساب الهدف طويل الأجل؛ لتعميق الاستقرار، وحينئذ فإن الأنشطة التي تهدف إلى تحقيق الاستقرار وتلبية الاحتياجات العاجلة، غالبًا ما تفشل في معالجة القضايا الهيكلية، وتؤدي إلى تفاقم هذه القضايا الأساسية التي تسبب المظالم وتفاقم المخاطر.

كان طوفان الأقصى أحد الدلائل الهامة في تأكيد هذا الافتراض؛ إذ لا يمكن القفز على القضية الفلسطينية، والاكتفاء بالتعاون الاقتصادي والأمني وحده سبيلا للاستقرار.

أولا: الإدارة بالهشاشة: يتساءل المرء بعد مطالعة مقال الإيكونوميست

الذي نشر مطلع هذا الشهر: ما الذي يمكن أن تتوقعه من دور لمصر، وقد حمل عنوان: “مصر لا تستحق الإنقاذ، بل ينبغي أن تحصل عليه”. أما عنوانه الفرعي فهو: “لا يستطيع الشرق الأوسط، أن يتحمل انهيار الدولة الأكثر اكتظاظا بالسكان”.

الدور المرسوم لمصر في الإقليم له جانبان: سلبي وآخر إيجابي، والسلبية والإيجابية هنا، تم توصيفهما وفق رؤية الحكومات الغربية بشكل أساسي، وفي مقدمتها الولايات المتحدة.

الدور السلبي هو: منع انزلاق الأوضاع في مصر إلى اضطراب، وعدم استقرار، يضاف إلى أحوال الإقليم غير المستقرة أساسا. أما الدور الإيجابي، فهو دور الوساطة في غزة، والمشاركة في إدارة الفترة الانتقالية فيها بعد الحرب.

هناك ترابط في الإدراك العام الغربي بين الدورين. تقول المجلة: “إن الشرق الأوسط الكبير، الذي يحترق بالفعل، لا يستطيع أن يتحمل اندلاع حريق في مصر أيضاً. وعلى أقل تقدير، فإن ذلك سيجعل مصر غير قادرة على المساعدة في التوسط، أو تنفيذ اتفاق سلام بين إسرائيل والفلسطينيين”.

ما سكتت عنه المجلة، ولم تفصح عنه هو تأثير مطالبتها بالتدخل المالي؛ لإنقاذ مصر برغم عدم كفاءة نظام الحكم فيها على الدولة والشعب المصري. وفق هذا التدخل، لا يمكن التحدث عن تغيير الصيغة السياسية ولا الاقتصادية التي أنتجت الأزمة التي تشير إليها المجلة؛ إذ كثيرا ما يعد النظام بالإصلاحات الاقتصادية، ولا يفعل إلا القليل منها.

عند هذه النقطة، يحق لنا التساؤل عن الدور الإقليمي لمصر في صياغة ملامح شرق أوسط جديد في ظل، ما يمكن أن نطلق عليه الإدارة الناجحة من النظام لهشاشة الدولة المصرية التي تجلب له الدعم المالي مقترنا بتقزيم أدوار مصر في الإقليم.

ثانيا: أوهام عقيدة بايدن للشرق الأوسط، أما إنها أوهام تكذبها الوقائع، وتخرصات أطلقها فريدمان

-كاتب العمود في النيويورك تايمز- فلأسباب عدة:

١- رفض إسرائيلي واضح لإنشاء الدولة الفلسطينية. بالطبع نحن لا نتساءل عن القدس ولا المقدسات المسيحية والإسلامية فيها، ولا عن طبيعة الدولة الفلسطينية- إن كانت منزوعة السلاح أم السيادة أم مجرد كيانات، تتمتع بالحكم الذاتي في ظل الهيمنة الإسرائيلية.

كان من نتائج طوفان الأقصى، أن دمجت السعودية علاقتها مع الكيان الصهيوني بإنشاء الدولة الفلسطينية، وهو ما لا أظنه يتحقق على المدى القصير ولا المتوسط.

لا يمكن توفير عملية تفاوضية ذات موثوقية، تنتهي بقيام الدولة الفلسطينية المنشودة؛ لأسباب تتعلق بأن الأطراف المشاركة والضامنة غير مهيأة للتعامل مع هكذا ملف.

السلطة الفلسطينية تحتاج إلى إصلاح، ومن سيحكم إسرائيل بعد الحرب لم يتحدد بعد، وهذا العام هو عام الانتخابات الأمريكية، ولا ندري ما الله محدثه في كرسي الرئاسة الأمريكية، هل يستمر بايدن أم يأتي ترامب، أم يتم استبعاد الاثنين؛ لأسباب صحية لدى الأول، وقانونية للثاني، وتكون المنافسة بين شخصيات أخرى.

إن جاءت الفرصة- ولا أظنها تجئ وفق المعطيات الحالية- فقد نضطر إلى الانتظار، حتى تشكيل حكومة إسرائيلية جديدة، وسلطة فلسطينية جديدة، وولاية ثانية لبايدن، ونحن لا نتحدث عن الإعمار، ولا وضع حماس والمقاومة.

٢- أحد مرتكزات عقيدة بايدن- كما اقترحها فريدمان- هي المواجهة الساخنة مع إيران، وهو ما ليس محل اتفاق بين دول الإقليم. عجزت الولايات المتحدة عن تكوين ائتلاف إقليمي؛ لمواجهة هجمات الحوثيين في البحر الأحمر. مع الطوفان؛ قامت سياسة الولايات المتحدة- حتى الآن- في التعامل مع إيران على مرتكزين: التعاون معها لعدم توسيع دائرة الحرب، بالإضافة إلى ردع وكلائها، وفي حال تعرض الجنود الأمريكيين للقتل؛ يتم الاشتباك العسكري المباشر معهم بطريقة مستهدفة، دون توسعة دائرة الحرب، وهو ما ثبتت فاعليته حتى الآن.

٣- تتطلب معاهدة الدفاع بين الولايات المتحدة والسعودية التصديق عليها بأغلبية الثلثين في مجلس الشيوخ؛ هذا في ظل الكونجرس الذي يكافح من أجل الاتفاق على أي شيء، ولا سيما طلب بايدن مزيد من الأموال لمساعدة أوكرانيا، وإسرائيل وغيرهما. إن الاتفاق لو تم التوصل إليه في هذا العام يجب أن يحظى بدعم الحزبين، حتى لو عارضه بعض الديمقراطيين اليساريين والجمهوريين الانعزاليين. وإذا فاز ترامب بولاية ثانية، فمن المحتمل أن يصوت الديمقراطيون بشكل جماعي، ضد معاهدة الدفاع.

الخلاصة:

“إن الشرق الأوسط هو المكان الذي ستموت فيه الأفكار الأمريكية الكبرى“، كما حذر آرون ديفيد ميلر، وهو مفاوض مخضرم للسلام في الشرق الأوسط.

تعلمنا خبرة التاريخ الذي امتد لثلاثة عقود، هي عمر أوسلو، أن “الاستثمار الأمريكي الكبير في بناء دولة فلسطينية من المرجح، أن ينتهي بالفشل، كما حدث مع الجهود السابقة للقيام بنفس الشيء”- وفق ما انتهى إليه ستيفن كوك، كاتب العمود في الفورن بوليسي

ثالثا: الدور المصري في نظام إقليمي جديد: لا يمكن تصور هذا الدور في ظل عقيدة بايدن التي ثبت، أنها أقرب للوهم منها للحقيقة- على الأقل حتى يعاد انتخابه نهاية هذا العام.

في تقديري، فإن معالجة هذا الدور يأتي من المساهمة في إعطاء قوة دفع؛ لأن تأتي الاختراقات الدبلوماسية من المنطقة أساسا مع توفير مظلة دولية متعددة الأطراف داعمة لهذا التوجه، وهذا يتطلب زيادة دور القوى الإقليمية الكبرى بشكل مطرد من جهودها؛ لتشكيل ووضع الترتيبات الأمنية وزيادة التعاون الاقتصادي.

يتعين على هذه الحكومات، أن تجتمع لبناء آليات دائمة؛ لمنع نشوب الصراعات، وتحقيق السلام في نهاية المطاف.

أثبت طوفان الأقصى ثلاث حقائق، يجب المراكمة عليها:

١- أن إسرائيل- خاصة في ظل تصاعد اليمين- هي عدو الاستقرار الأول في المنطقة- كما ظهر بالنسبة لمصر في قضيتي التهجير والهجوم العسكري على رفح. إسرائيل لن تمنح للفلسطينيين دولة، وتفرض فيتو على دمج إيران بالمنطقة، وتريد أن تبني تحالفا مع دول المنطقة والولايات المتحدة لمحاربتها ووكلائها.

٢- هناك حدود للقوة الأمريكية في المنطقة، لذا فلن يكون من الحكمة- كما أشارت الفورين أفيرز في مقال أخير لها

المراهنة على تخصيص الولايات المتحدة موارد دبلوماسية، وأمنية كبيرة للشرق الأوسط على المدى الطويل.

يري مؤلف المقال، أن: “من هو قادر على إصلاح الشرق الأوسط هو الشرق الأوسط ذاته”.

الديناميكيات الإقليمية والعالمية الحالية، تجعل من الصعب للغاية على واشنطن، أن تلعب هذا الدور المهيمن، وهذا لا يعني أن القوى العالمية الأخرى ستحل محل الولايات المتحدة. الأطراف الدولية جميعا لها مصلحة في تحقيق الاستقرار في المنطقة؛ لذا فهي ستدعم أية جهود من حكوماتها للوصول إلى ذلك.

٣- لم تستطع الحرب المستعرة على الفلسطينيين، أن تقلب التوجه الأساسي- الذي بدأ قبل الطوفان- للتعاون بين دول المنطقة باستثناء إسرائيل الذي بات مستقبل التطبيع معها محل تساؤل في مجمل المنطقة، خاصة في ظل التوحش الذي أظهرته.

زاد التعاون بين السعودية وإيران؛ لاحتواء التصعيد، كما لم تشارك دول المنطقة في التحالف الذي دشنته الولايات المتحدة لمهاجمة الحوثيين، الذين بدورهم لم يهاجموا أية أهداف في الخليج- كما جرى من قبل. ساعدت ترتيبات ما بعد الحرب في غزة ومواجهة سياسات نتنياهو على زيادة التعاون بين دول الإقليم. يظل الدور الإماراتي في الإقليم محل تساؤل؛ وذلك من جهة إثارته، ومساعدته في مزيد من الاضطراب- كما يظهر في السودان والقرن الإفريقي واليمن… إلخ.

يحتاج هذا التوجه إلى آليات عمل متعددة، لكن ما أحب أن ألفت النظر إليه، هو أن هذا التوجه إن كان يمكن له أن يعالج الهشاشة الذاتية لمصر من خلال إظهار مدى فائدتها للإقليم لا عبئا عليه، لكن شرطه الأساسي هو: تغيير صيغة السياسة والاقتصاد في بر مصر.

في ختام مقالي الذي نشر على موقع مصر ٣٦٠ أوائل العام الماضي، وخصصته لمراجعة مفهوم الاستقرار قلت نصا: “برغم أن الوضع الراهن قد يبدو مستقرا في الأمد القريب، لكنه استقرار يستند إلى قاعدة ضعيفة. يتطلب الوضع الاقتصادي الضعيف أصلا، وهو الذي يزداد سوءا، إجراء تغييرات استراتيجية في النهج الذي يتبعه النظام، ولا سبيل لذلك سوى البدء في عملية إصلاح تدريجي من القمة، والتي من شأنها أن تسمح بالمشاركة الحقيقية من المصريين، وضمان المساواة بينهم، وإلا فإن البديل هو حدوث انفجار اجتماعي في نهاية المطاف، وهو انفجار تزداد احتمالات وقوعه؛ بسبب غياب أية مؤسسات سياسية قادرة على استيعاب المطالب الاجتماعية، وبلورتها تمهيدا للتعامل معها”. تقول الإيكونوميست: “إن الانهيار أمر محتمل إلى حد مرعب، حيث تواجه البلاد أزمة مالية متزايدة”.

ختمت مقالي بالقول: “من واقع التجربة، عندما يتدهور الوضع، سيتركز الدعم على إجراء إصلاحات مؤقتة [وأضيف أو شكلية]، ستفشل حتما في تقديم أيّة رؤية طويلة الأجل.”