“إذا ما أردتُ تلخيص معنى مؤتمر بال، وهذا ما لن أفعله علنًا، فإنني أقول: في بال أقَمتُ الدولة اليهودية. إذا ما قلتُ هذا القول اليوم، بصوت عالٍ، فسأحظى بسخرية العالم، ولكن من المحتمل بعد خمسة أعوام، وبالتأكيد بعد خمسين عامًا، سيرى العالم أجمع دولة اليهود”. هكذا تحدث الكاتب النمساوي المجري، والأب الروحي للدولة الصهيونية تيودور هيرتزل في عام 1904، واصفًا المؤتمر الصهيوني السادس الذي انعقد في مدينة بال بسويسرا في 1903، كما روى لنا المؤرخ الفلسطيني الكبير المرحوم الدكتور أنيس الصايغ، المُلقَب بحارس الذاكرة الفلسطينية.
كان هيرتزل قد سعى بنهاية القرن التاسع عشر لدى السلطان العثماني عبد الحميد، للسماح لليهود بالهجرة لفلسطين، ومنحهم استقلالًا ذاتيًا بها، لكن باءت محاولاته بالفشل، إذ قال السلطان عبد الحميد، حسبما يروي الدكتور أنيس الصايغ في كتاب ملف وثائق فلسطين: “لا أقدر أن أبيع ولو قدمًا من البلاد، إنها ليست لي بل لشعبي. لقد حصل شعبي على هذه الإمبراطورية بإراقة دمائهم، وقد غَذْوها فيما بعد بدمائهم، وسوف نغطيها بدمائنا، قبل أن أسمح لأحد باغتصابها منا. الإمبراطورية التركية ليست لي، وإنما للشعب العثماني”. لم يكن رفض السلطان العثماني- إذن- لطلب هيرتزل مدفوعًا بتقديرٍ منه لأهمية حماية فلسطين التاريخية، وما بها من مقدسات دينية، أو مشفوعًا بإدراكٍ منه، بأن حق تقرير مصير أهلها لا يملكه سواهم، لكنه كان مبنيًا فقط على نزعةِ كبرياءٍ إمبراطوري، يأبى توطين جماعة ما ترغب في إقامة دولة مستقلة على جزءٍ من إقليمٍ يقع ضمن دائرةِ مُلكه.
في خضم الصراع الذي كان دائرًا بين الدولة العثمانية والغرب، تقدم جوزيف تشيمبرلين وزير المستعمرات البريطانية في 1903، بِعَرضٍ لمنح الصهاينة جزءًا من أوغندا التي كانت في ذلك الوقت واحدة من المستعمرات البريطانية الغنية بالثروات، لتكون وطنا قوميًا لليهود. كان تشيمبرلين يهدف بهذا العرض، استقطاب يهود العالم للاصطفاف إلى جانب بريطانيا في صراعها مع الدولة العثمانية. لم تكن فكرة هذا العرض وليدة الظرف السياسي في تلك الفترة على وجه التحديد، لكنها كانت قد وردت قبل ذلك بنحو عشرين عامًا، بكتاب “الانعتاق التلقائي” (Auto-Emancipation) الصادر في 1882، للكاتب والناشط اليهودي البولندي ليون بينسيكير، وهو واحد من أهم الكتب المؤسِسَة للصهيونية الحديثة، والذي جاء فيه نصًا: “يجب أن نجد وطنًا لهذا الشعب، حتى يكف عن التجوال في العالم، وحتى نعيد إقامة الأمة اليهودية. ولكننا قبل كل شيء يجب ألا نحلم باستعادة أرض يهوذا القديمة. إننا يجب ألا نربط أنفسنا بالمكان القديم الذي تحطمت فيه حياتنا السياسية وتوقفت. أن هدفنا في الوقت الحاضر يجب ألا يكون استعادة الأرض المقدسة. إنما نطالب بأرض لنا.. أية أرض.. إننا لا نريد سوى قطعة من الأرض ذات اتساع، يمكن أن يأوي إخواننا البؤساء، قطعة من الأرض، تظل ملكًا لنا، ولا يستطيع أحد، أن يطردنا منها.” إذن، فقد كانت فكرة منح الصهاينة أرضًا، مطروحة منذ زمن بعيد.
انقسمت الحركة الصهيونية إزاء تلك الفكرة إلى ثلاثة فِرَق: فريق لا يمانع من قبول أي أرض (أوغندا والأرجنتين مثالًا)، وفريق آخر لا يمانع من قبول أي أرض شريطة، أن تكون قريبة من فلسطين (قبرص وسيناء مثالًا)؛ لينطلقوا منها بشكل تدريجي صوب “أرض الميعاد”، وفريق ثالث أكثر تشددًا، لم يقبل بغير فلسطين بديلًا، وكان هيرتزل على رأس هذا الفريق. ولأجل بحث عرض تشيمبرلين، وحسم هذ الانقسام في الحركة الصهيونية، أقرت الأغلبية في مؤتمر بال 1903، إرسال لجنة خاصة لأوغندا لدراسة، وتقييم مدى ملائمة الظروف الحياتية بأوغندا على أرض الواقع. فلما عادت اللجنة، قدمت توصيتها باستحالة استيطان اليهود في تلك الأرض، ليقول هيرتزل: “إن إفريقيا ليست فلسطين، ولا يمكن بحال أن تحل محل صهيون”. بعد وفاة هيرتزل في يونيو 1904، رفض المؤتمر الصهيوني السابع الذي انعقد في 1905، بشكلٍ رسميٍ عرض تشيمبرلين، فقامت بريطانيا بسحبه، وطُويَّت صفحة الخيار أوغندا إلى الأبد. اختير حاييم وايزمان خليفة لهيرتزل، فقام بالعمل على مساراتٍ متوازية، لتحقيق الحُلم تقوم على تأجيل تكوين كيان سياسي قانوني، كما كان هيرتزل يسعى، مع الاستمرار في المطالبة به، لكن بشكل أكثر مرونة لحين تهيئة الظروف الموضوعية الداعية له، بما يتيح تيسير الاعتراف القانوني به، فبدأ بتشجيع هجرة اليهود المنظمة لفلسطين، ليتَحَصَل على وعد بلفور في 1917 قبل نهاية الحرب الكونية الأولى بعام واحد بالضبط.
مضت السنين سراعًا، وتوالت فيها الهجرات اليهودية إلى أرض فلسطين، دون نشأة كيان سياسي صهيوني بالمفهوم القانوني، إلى أن وصلنا إلى عام 1928، حين كان جوزيف ستالين على رأس الحكم في الاتحاد السوفيتي. قرر ستالين في ذلك الوقت، تخصيص منطقة سوفيتية، تقع على حدود الصين، تسمى “يفريسكايا أوبلاست” (“المقاطعة اليهودية” بالروسية)، وعاصمتها “بيروبيجان”، لتوطين يهود العالم؛ بغرض تعميرها وزراعتها وكذا للاستفادة من الأموال الطائلة التي تُحولها الجمعيات اليهودية بأمريكا، وأوروبا لهؤلاء المستوطنين، بالإضافة إلى هدف سياسي- كما فعل تشيمبرلين بالضبط- يضع اليهود بموجبه تحت رقابته لاستخدامهم لاحقًا في تعزيز صراعه مع منافسي الاتحاد السوفيتي الذين كان اليهود على أوثق الصلة بهم.
استعاد الثعلب الصهيوني حاييم وايزمان، خيار القبول بأي أرضٍ، يجتمع فيها أكبر عدد من اليهود بصورة “مؤقتة”؛ لحين تحقيق الحُلم، بل ورحبَ بهذا الخيار قائلًا: “إنني أُبارك هذا المشروع وأُقَدرُه، لا باعتباره بديلاً عن إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، لكن بكونه تجربة مبدئية لفكرة الوطن القومي اليهودي”. وقد كان هذا هو ما حدث بالفعل، إذ كانت بيروبيجان بؤرة تَجَمَع فيها مئات الآلاف من يهود العالم الذين ما لبثوا بعد ذلك بعشرين عامًا، إلا وقد حشدوا أموالهم وحزموا حقائبهم في هجرة عكسية لأرض ميعادهم، ليكون الاتحاد السوفيتي، هو أول دولة تعترف- قانونًا- بالدولة الصهيونية في 17 مايو 1948، ثم بحاييم وايزمان رئيسًا لها.
كانت أوغندا وبيروبيجان، محطتين هامتين في مسار الدولة الصهيونية، تحرص هي على إخفائهما، ولا يجوز لنا إلا أن نتذكرهما، ونُذَكِّر العالم بهما، استعدادًا لما هو آتٍ من محطات التاريخ اللئيم الذي له في نهاية الحكاية، كلمة أخرى.