تأسست الدولة الحديثة 1805- 2024 م، كجهاز تسلط، كسلطة عقابية، كقوة فوق القانون، وباستثناء الفترة بين ثورة 1919م، وثورة 23 يوليو 1952م، فإن القانون هو ما يراه الحاكم، البرلمانات من عهد إسماعيل إلى عهد الجمهورية الجديدة، تتولى التشريع وفق إيحاءات الحاكم الصريحة أو الضمنية، الحاكم الفرد المطلق هو عماد الدولة الحديثة، وقوله شرع، وشرعه قانون، وقانونه نافذ فوق رقاب الجميع، لا فرق بين قانون عادل أو قانون ظالم جائر.
ذلك لم يكن هو الحال قبل الدولة الحديثة، فلم تكن تركيبة السلطة تسمح بظاهرة الحاكم الفرد المطلق، فلم يكن الحاكم، سواء من السلاطين العثمانيين في إسطنبول، أو من المماليك في القاهرة، يستحوذ على قدر واسع  من السلطة المطلقة، يتمكن به من قطع الرؤوس وكسر النفوس، كما تمكن وما زال يتمكن الحكام في القرنين الأخيرين أي في الدولة الحديثة.

لم تنكسر نفسية المصريين من قبل، مثلما انكسرت، ومازالت منكسرة، في عهد الدولة الحديثة، من كرباج الباشا وذريته من بعده، إلى منظومة القمع غير المسبوقة في كافة عهود النظام الجمهوري، قمع وطني، قهر مقدس، بطش محمود، إذلال ضروري، تكميم لا بد منه، والمبررات كثيرة؛ لحماية الثورة، لحماية الجمهورية، للحفاظ على الدولة، لصيانة الاستقرار، لتثبيت التماسك الوطني، للوقوف في وجه المؤامرات الخارجية، لإحباط مكائد أعداء الوطن، تشكيلة واسعة من الكرابيج الوطنية المقدسة،  تبدأ بالشعارات، وكان أولها في دولة 23 يوليو 1952م “الاتحاد، النظام، العمل”، ثم كان آخرها مع دولة 30 يونيو 2013 م “كلنا على قلب رجل واحد”، ثم تمر بالأغاني الوطنية، ثم تستقر وراء أسوار السجون والمعتقلات، قدرة الدولة الحديثة على قمع المصريين هو القاسم المشترك بين كل عهودها، كما هو السمة التي لا تتوقف عن التجدد والازدياد أفقياً ورأسياً، انحنت ظهور المصريين تحت كرابيج الباشا وذريته، ثم انكسرت نفوس المصريين تحت حكم رؤساء جمهورية مولودين من أبوين مصريين، ومن أجداد مصريين، فما يمتاز به العهد الجمهوري- في كل مراحله- هو أنه لأول مرة منذ ألفي عام يقهر المصريين، ويقمعهم حكام مصريون خلصاء في مصريتهم لا شك فيها، دماؤهم مصرية وهويتهم مصرية، ومن عمق الطبقات المصرية الفقيرة الصميمة. الثورات، باستثناء ثورة 1919م، كانت مجرد فواصل، ينقطع عندها إرسال القمع، ثم يعود القمع أشد قسوة بعد الفاصل، كأنه عقاب للشعب، حتى لا يعود لفكرة الثورة أبداً .

……………………………………………………..

في الفترة من سبتمبر 1879- سبتمبر 1881م، حكمت وزارة مصطفى رياض باشا الأولى، وقد ترافقت مع حالة الحراك الشعبي للثورة العرابية، وكان للخديوي توفيق رغبة في التخلص منها، وهي الرغبة التي صادفت مطالب الثوار العرابيين، لكن الأستاذ الإمام محمد عبده كان له موقفا مختلفا من حكومة رياض الأولى، كان يراها حكومةً إصلاحية جديرة بالتعضيد والتدعيم، ملاحظته الوحيدة عليها، هو أنها كانت تتعجل الإصلاح، وتسرع الخطى فيه فوق قدرة الواقع السياسي والاجتماعي على التكيف، فقد اتخذت الحكومة إصلاحات عظيمة متتالية، ومتسارعة لصالح الشعب، لكن بصورة استفزت، وحرضت الأطراف المتضررة من هذه الإصلاحات، بما فيها الخديوي توفيق نفسه الذي رحب بمطلب عرابي الخاصة بإقالة حكومة مصطفى رياض باشا. يرصد الأستاذ الإمام محمد عبده في ص 545، وما بعدها من المجلد الأول من الأعمال الكاملة بعض هذه الإصلاحات كالتالي:

1 – كان أول إصلاح قامت به حكومة رياض، هو إلغاء السخرة الخاصة، أو الشخصية أي العمل بدون أجر، لدى كبار القوم والوجهاء والأعيان، وكذلك إلغاء السخرة العامة أي العمل بدون أجر في بناء وإصلاح المرافق العامة، وكل ما يندرج تحت بند المصالح الحكومية. كان المصري على مدى ثلاثة أرباع قرن من نشأة الدولة الحديثة يتم استنزافه على الجبهتين، سخرة لصالح الحكومة، سخرة لصالح الذوات والأعيان والوجهاء وأكابر رجال الدولة والموظفين، يقول الأستاذ الإمام عن السخرة الخاصة أو الشخصية: “كان جميع الوجهاء، وجميع موظفي الحكومة، يرهقون الأهالي بهذه السخرة، أي العمل بدون أجر، ويقرونها بالضرب والإهانة، حتى أن بعضهم كان يضرب الفلاحين لمجرد التلذذ”، ثم يقول: ” كانوا يسخرون الفلاح بشخصه ووقته وعمله وطاقته، هو ومواشيه معه في جميع مواسم الزراعة، وكان على الخاضعين للسخرة عند الوجهاء والأعيان والأكابر، أن يحملوا معهم طعامهم وأدوات عملهم وأعلاف مواشيهم، إذا كانوا يأتون للعمل من قرى قريبة، فإذا كانوا يأتون من قرى بعيدة، يتم إلزامهم بحمل طعامهم، ويتكلف الأكابر بعلف المواشي”، ثم يقول: “لم يكن الأكابر يوفرون لعمال السخرة أماكن، تقيهم برد الشتاء أو حر الصيف”، ويقول: “كان ذلك التسخير يقتل في المصريين كل شعور بالاستقلال والإرادة”. يقول الأستاذ الإمام: “شدد الوزير- يقصد رئيس الحكومة مصطفى رياض باشا 1834- 1911م- في إلغاء السخرة بنوعيها، وبالغ في ذلك، حتى أنه عاتب مدير القليوبية، لأنه سخر بعض أهالي القليوبية في حفر الترعة التوفيقية التي تحمل المياه لأراضي الخديوي توفيق في منطقة القبة”، ويضيف: “وبخ المدير توبيخاً شديداً، وعرض الأمر على الخديوي فاستحسنه”. ثم يقول، إن ذلك لم يكن ينال رضا الأكابر “بعد حرمانهم من منافع أبدان الرعية بغتة بلا تدريج”.

2 – العدل في توزيع مياه النيل بالقسط، وكان الفقراء لا ينالون من النيل- في غير أيام الفيضان- إلا ما يفيض بعد حاجة الأغنياء، وشدد رياض باشا على نظارة الأشغال العمومية في تنفيذ ذلك، ويذكر الأستاذ الإمام، أن أحد الباشوات كان يحتجز الماء، ثم يبيعه للفلاحين، وكان يستخدم قوة السلاح في منع الفلاحين من الري، فأمر رياض باشا بفتح الترعة، ولو بقوة السلاح، ففُتحت تحت حماية العساكر المصرية.

3 – تنظيم واردات ومصروفات الحكومة، وتشكيل لجان لسماع شكاوى المتضررين من فداحة الضرائب وإنصافهم، وتنظيم مواعيد تحصيل الضرائب، بما يتناسب مع ظروف الفلاحين ومواسم الحصاد، فعرف الفلاح – لأول مرة- ما له وما عليه.

4 – لم تمض على وزارة رياض باشا بضعة أشهر، حتى ألغى أكثر من ثلاثين ضريبة من الضرائب الصغيرة التي أضرت بالمصنوعات، والأعمال التجارية والصناعات الخاصة بالوطنيين وبأحوال المزارعين، ثم أصدر عفواً، عما عجزت الحكومة عن تحصيله من الضرائب المتأخرة إلى عام 1876م، هذه الإصلاحات نالت ترحيب الصناع والتجار والزراع، لكن نالت سخط الأغنياء والكبراء.

5 – إبطال الكرباج، صدر الأمر بإبطال الضرب بالكرباج في تحصيل الأموال الأميرية، فعجب كثير من الناس لذلك، وقالوا: كيف يمكن تحصيل المال من الفلاح، دون ضرب؟!، وأنكره كثير من المديرين، وظنوا أنه قد هُدم ركن عظيم من سلطان الحكومة.

5 – إبطال الحبس في تحصيل الحقوق، صدرت الأوامر مشددة بمنع الحبس، لتحصيل الحقوق، سواء كانت أميرية أو شخصية. لكن تنفيذ هذه الأوامر واجهتها مصاعب ومقاومة شديدة، لأن الميل إلى الظلم كان قد تمكن من أنفس كثيرين من المديرين، لكن إصرار رياض باشا محا الحبس إلا فيما ندر.

………………………………………………………….

يرى الأستاذ الإمام محمد عبده أمرين: أولهما: أن الظلم ملازم لسلطة الدولة الحديثة. وثانيهما: أن المظلوم تعود عليه إلى حد قبوله والتسليم به والتكيف معه، واعتباره الأصل الطبيعي للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، فهي علاقة بديهية بين ظالم متعود على ممارسة الظلم، ومظلوم متعود على ابتلاع وهضم الظلم، يقول الأستاذ الإمام، إن كثيرين ممن ألهبت ظهورهم وعظامهم الضرب والجلد بالكرابيج، وكثيرين ممن أرهق أجسامهم وأرواحهم الحبس، كانوا يعتبرون ذلك أمراً طبيعياً، بل كانوا يعتبرون إلغاء الكرباج وإلغاء الحبس مخالفاً لطبائع الأمور، كان هناك اتفاق ضمني بين الظالم والمظلوم، على أن الكرباج ضرورة لا تستقيم بدونها أمور الدولة. كان الظلمة والمظلومون يقولون، إنه “لا يفيد إلا الكرباج”.

السؤال الطبيعي: لماذا يصبر المصريون على الظلم، ثم يتكيفون معه، ثم يصير الأصل الطبيعي في العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

ذلك مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.