كأن الذاكرة الدبلوماسية محيت في مؤتمر ميونيخ للأمن (2024)، في مداخلة وزير الخارجية “سامح شكري”.
ناقضت تصريحاته حقائق الصراع على الحدود المصرية المشتعلة بالنيران والمخاوف.
تجاهلت أي التزام بالقضية الفلسطينية، وأي اعتبار لسلامة سيناء.
تبنى الوزير المصري الرواية الإسرائيلية، كما عرضتها وزيرة الخارجية السابقة “تسيبي ليفني”.
أدان “حماس” بذات العبارات التي استخدمتها، داعيا إلى مساءلتها مع الذين يدعمونها!
لم يشر إلى أية إدانة مستحقة للولايات المتحدة، التي وفرت الغطاء السياسي والعسكري والاستراتيجي لأبشع حروب الإبادة في العصور الحديثة، ولا دعا إلى إجراءات صارمة لوقف العدوان الهمجي على شعب، يتعرض للتجويع والتعطيش- كما فعلت القمة الإفريقية.
بتعبير مندوب الجزائر في مجلس الأمن، فإن الإجهاض الأمريكي لمشروع القرار، الذي تقدمت به بلاده باسم المجموعة العربية لوقف القتال، “موافقة على استخدام التجويع سلاحا في الحرب”.
السياسات تكتسب احترامها من اتساقها، فلا يقول وزير الخارجية في محفل دولي كمؤتمر ميونيخ كلام، ويقول مسئولون آخرون بمحافل دولية أخرى كمحكمة العدل الدولية كلاما آخر.
الأخطر أن “ليفني” رددت على مسامع الوزير المصري عبارة، تؤيد فيها التهجير القسري دون رد.
قالت نصا: “إذا فرض علينا التهجير القسري، فسوف نقدم الدعم الإنساني”!
من الذي يفرض ذلك التهجير؟
الوثائق والوقائع والاعترافات ماثلة، وتهديد سيناء حاضر في المشهد.
ما وجه أن تكون إسرائيل مضطرة؟
لا شيء على الإطلاق.
ثم ما معنى، أنها لا تمانع في الدعم الإنساني، إذا كانت تمارس أمام العالم كله أبشع جرائم التعطيش، والتجويع وتمنع وصول المساعدات الإنسانية الضرورية، حتى تكون الحياة مستحيلة بالقطاع المعذب، ويكون التهجير محتما.
بدا صمت الوزير على ادعاءات “ليفني”، كأنه قبول بها.
لم يكن متصورا أن يحتذي عبارات الرئيس البرازيلي “لولا دا سيلفا”، من أن ما ترتكبه إسرائيل لا مثيل له، سوى ما فعله الزعيم النازي “أودلف هتلر” باليهود.
هذه حقيقة، تقر بها شخصيات يهودية بارزة في الولايات المتحدة.
لكل موقف تكاليفه، إذا لم تكن قادرا عليها، فلا يصح أن تتماهى مع رواية النازيين الجدد.
يستلفت الانتباه- هنا- أن وفد “حماس” التفاوضي على ما استمعت من قادته، يحظى باهتمام وتفهم من السلطات المصرية، فيما وزير الخارجية يتبنى موقفا، لا يمكن فهمه كوسيط، ولا تقبُله في ظروف حرب إبادة، قد تقرر مصير القضية الفلسطينية لآماد طويلة مقبلة.
المعنى أنه لا توجد سياسات متماسكة، يجري اتباعها من كافة مؤسسات الدولة.
كما يستلفت الانتباه في السياق نفسه الدعوة الرسمية التي وجهتها موسكو للفصائل الفلسطينية، للاجتماع بالكرملين في (26) فبراير الحالي.
وحدت الحرب الوحشية في غزة، والضفة الغربية الوجدان الفلسطيني مرة أخرى.
القضية فوق الفصائل والوحدة ضرورة وجود.
إثارة التناقضات الآن خطيئة أخرى.
ذلك التخبط الفادح أفضى إلى الإساءة لأية أدوار منسوبة لمصر، وأعاد إلى الذاكرة قصة ما جرى قبل خمسة عشر عاما، بين الوزير المصري في ذلك الوقت “أحمد أبو الغيط”، ووزيرة الخارجية الإسرائيلية “تسيبي ليفني”.
في ذلك الوقت، طرح على نطاق واسع في العالم العربي هذا السؤال:
إلى أي حد تورطت السياسة المصرية في العدوان على غزة؟
هناك ثلاث روايات، حاولت أن تفسر ما جري في القصر الرئاسي المصري، وما إذا كانت “ليفني” قد أبلغت “حسني مبارك” بقرار مجلس الحرب الإسرائيلي المصغر في اليوم السابق مباشرة؛ لبدء العمليات العسكرية.
الرواية الإسرائيلية أكدت التواطؤ، وأنها أبلغت مصر رسميا بقرب البدء في العمليات، ضد “حماس”، الصحف العبرية مضت في هذا الاتجاه، والمسئولون الإسرائيليون أوحوا به.
عندما حاولت “ليفني”، أن تعفي جزئيا حليفها المصري من مستوى التورط، بدت تصريحاتها مراوغة، لا أكدت، أنها أبلغت القيادة المصرية ولا نفت.. وظل الاتهام الخطير معلقا فوق الرقاب.
كانت هناك مصلحة استراتيجية إسرائيلية في إثارة النزاعات بين العرب وتعميقها.
في مثل ذلك الانقسام، يمكن المضي في العمليات العسكرية، وإكسابها غطاء سياسيا عربيا إلى أطول فترة ممكنة، بما يسمح لها بتصفية بنية المقاومة في غزة.
في مقابل الرواية الإسرائيلية المراوغة، لم تكن الرواية المصرية على شيء من التماسك والقدرة على الإقناع، بأنها ليست متورطة في توفير غطاء عربي للعدوان.
الكلام الإعلامي والدبلوماسي، أكد فرضية التورط، بالإمعان في سب “حماس” والهجوم عليها، وتحميلها مسئولية العدوان على غزة، على الأقل، فإنه نزع عن الموقف الرسمي الحد الأدنى من الاحترام في محيطه، ولدي قطاعات غالبة من الرأي العام المصري.
كان مثيرا، أن يدين “مبارك” العدوان الإسرائيلي على غزة بعبارات صريحة، رفضت بنصوصها إضفاء أية ذرائع عليه، بينما دبلوماسيته، وإعلامه أعفت إسرائيل من المسئولية، وحملتها للضحايا!
لم يكن “مبارك” مستعدا، أن ينفي عن نفسه فرضية التورط، متحملا تبعات النفي، وقادرا على بناء تصورات جديدة، ترمم صورته المنهارة في العالم العربي، ولا كان مستعدا، أن يبدو ضالعا في العدوان، فالرأي العام لا يقبل.
اختلطت الأوراق، وتحولت “حماس”- في الخطاب الإعلامي- إلى عدو، يسبق إسرائيل في الخطورة، ويسوغ للأخيرة العدوان على غزة.
تناثرت الروايات هنا وهناك، وقيل كلام كثير منقول على لسان قيادات “حماس”، إن القاهرة أبلغتها، أن العمليات الإسرائيلية مؤجلة، لحين التوصل إلى اتفاق جديد للتهدئة.
كان بعض الكلام مدقق، وبعضه الآخر مقصود به الوقيعة، وجدت مصر نفسها متهمة، والشواهد ظاهرة، مصحوبا ذلك كله بفشل دبلوماسي ذريع في مواجهة العدوان الإسرائيلي على غزة.
كان مثيرا للتساؤلات، أن يقول المتحدث الرسمي باسم الخارجية المصرية، بأننا “أخذنا على حين غرة”، قاصدا الاتهامات التي وجهت للنظام المصري بتوفير غطاء للعدوان، لا الحديث عن العدوان نفسه.. أو أن إسرائيل قد أخذت الدبلوماسية المصرية على حين غرة، وخدعتها في قصر الرئاسة!
استدعت صور المؤتمر الصحفي الذي جمع “أبو الغيط”، و”ليفني” تساؤلات، عما إذا كانت الحميمية الظاهرة تعبيرا عن سياسات متقاربة في حرب غزة.
في عام (2009)، لم تجد عميلة الموساد السابقة “تسيبي ليفني” حرجا، في أن تعترف لصحيفة “التايمز” البريطانية، بأنها لم تكن تمانع “في أعمال القتل، والجنس من أجل إسرائيل”.
صعدت إلى منصبها في حكومة “إرييل شارون” عام (2005)، بعد انسحاب “بنيامين نتنياهو”، وآخرين من ذات التوجه اليميني المتشدد احتجاجا على سياسة فك الارتباط، ودعمت خطة “شارون” للانسحاب من غزة!
من خارج السلطة، تدعم الآن خطط “نتنياهو”، واليمين المتطرف للعودة إلى غزة.
بمراوغات تشبه مداخلتها في مؤتمر ميونيخ، حاولت منع أية تداعيات سلبية لفيلم وثائقي، بث على شاشات التلفزيون الإسرائيلي في (25) فبراير (2007) عن مجزرة، راح ضحيتها نحو (250) أسيرا مصريا على أرض سيناء، أثناء حرب (1967)، كشف أسرارها الدموية، ومجرمي الحرب فيها.
لم تكن القصة التي سجلها الفيلم الوثائقي الإسرائيلي جديدة تماما، فقد كانت لدى السلطات المصرية عام (1968)، معلومات أولية عن مجزرة لأسرى مصريين، جرت على أرض سيناء في يونيو (1967)، أبلغت مصر “الصليب الأحمر”، بما لديها من معلومات، والقصة كلها موثقة في السجلات العسكرية، وأشرف على متابعتها في ذلك الوقت الفريق أول “محمد فوزي” وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة بعد هزيمة يونيو.
بعد أربعين سنة على جريمة الحرب المروعة قالت “ليفني” في (7) مارس (2007): “لا يوجد ما يدعم الادعاءات، بأنه جرى تصفية أسرى حرب مصريين خلال حرب 1967”.. “وأنها مجرد اشتباكات في معركة”.
كان دفاعها مراوغا، فيما بدا كلام “أبو الغيط” إثر لقاء ضمهما في بروكسل تهربا من دخول معركة دبلوماسية لجريمة حرب مروعة باعتراف الذين شاركوا فيها.
قال نصا: “سوف نتعامل في الأطر الثنائية، والإقليمية والدولية وفق ما ستفعله إسرائيل”.
ثم لم يحدث شيء على الإطلاق.
تغييب الذاكرة الدبلوماسية، كأننا لا نتعلم شيئا من تجاربنا المريرة، يفضي دوما إلى تكرار الخطايا نفسها بصورة أفدح.