منذ أن عرفت مصر تعبير الأزمة الاقتصادية، أي منذ أكثر من ستين سنة، لم تقترب هذه الأزمة في أي يوم من أيامها من الانفراج الواضح والنهائي، بل كثيرا ما تزيدها الأيام تعقيدا، سواء من حيث تدهور مستوى المعيشة، أو من حيث تردي الخدمات العامة، أو من حيث انهيار سعر الجنيه المتسارع وبصفة مطردة، أم من حيث ضعف البنية الإنتاجية، وضعف جاذبية الاستثمارات الخارجية، ومديونية الدولة داخليا وخارجيا.. إلخ.

يجب أن يلفت نظرنا، أو بالأحرى يزعجنا أشد الإزعاج، ونحن نقرأ هذا المسطور أعلاه، أن هذا وجها واحدا للعملة، أما وجهها الثاني، فهو حقيقة أن مصر ربما تكون أكثر دول العالم استهلاكا للمسئولين المتخصصين، والخبراء في إدارة شؤون اقتصادها، فيما تظل النتيجة على حالها، إلا في أحوال قليلة، ولفترات قصيرة، وذلك منذ الاعتراف لأول مرة، أن موارد الدولة لم تعد تكفي احتياجات القوى الاجتماعية، وتحقق انطلاقة تنموية كبيرة في الوقت نفسه، وكان ذلك مع حكومة زكريا محيي الدين عام ١٩٦٦، التي جيء بها لعلاج الأزمة، ولكنها لم تستكمل مهمتها، لأسباب سياسية واجتماعية، أهمها السخط الشعبي على رفع أسعار السلع الأساسية.

فإذا حاولنا- على سبيل الرياضة الذهنية- إحصاء عدد المجموعات الوزارية الاقتصادية، منذ تلك الحكومة، وحتى حكومة الدكتور مصطفى مدبولي الحالية بمجموعتها الاقتصادية، فإن العدد يزيد على ثلاثين فريقا وزاريا.

هؤلاء تعاقبوا؛ من أجل غرض واحد، هو الإنقاذ الاقتصادي، وكان منهم اليساري واليميني، والمؤمن باقتصاد السوق الاجتماعي والمولع بالنيوليبرالية إلى آخر ألوان الطيف الفكري اقتصاديا وسياسيا.

وعندما نتذكر بعض هذه الأسماء (مثل عبد المنعم القيسوني، ولبيب شقير، وزكي شافعي، وعبد العزيز حجازي، وإسماعيل صبري عبد الله) سنكتشف غالبا، أن العيب ليس في أي منهم، وهو ما يسري أيضا على حكومة كمال الجنزوري، ثم عاطف عبيد، وحكومة أحمد نظيف، التي كانت تعرف بحكومة رجال الأعمال، فكلهم جاءوا الي المنصب، وخرجوا منه بسرعة ملفتة، ولم يعرف الرأي العام سبب استبعادهم، حتى يكون هذا الرأي العام متيقنا، من أنهم أُبعدوا للأسباب الصحيحة، وليس بسبب مقاومة فساد  مثلا، أو الصراع مع مركز قوة، أو بسبب اعتراض على سياسات، ثبت فيما بعد، أنها  كانت خاطئة.

إننا هنا لا نؤرخ للحكومات، ولا للمجموعات الوزارية الاقتصادية، حتى يستدرك أحد علينا بطول مدة حكومة الدكتور عاطف صدقي أو غيرها، فنحن مشغولون بظاهرة تعاقب كبار المسئولين عن الاقتصاد بسرعة وبكثرة، دون إحداث فرق حقيقي، حتى وإن طالت مدة البعض، أو حقق آخرون بعض الإيجابيات، كالتوازن المالي والنقدي الذي حققته حكومة صدقي، خاصة بعد إعفاء البلاد من جزء كبير من مديونيتها الخارجية، مكافاة على المشاركة في التحالف الدولي؛ لتحرير الكويت، لكن ذلك وما سبقه، وما لحقه لم يضع مصر على بداية طريق النمور الآسيوية مثلا.

وإذن فليس صحيحا، أن ثورة يناير هي التي أضاعت تلك الفرصة، كذلك فإن الإحصاءات الرسمية تشير إلى معدل نمو في عامي ٢٠١١ و٢٠١٢، أكبر من معدل النمو في عام ٢٠١٠، لكن هذا لا يهمنا  إلا من باب إبطال اتخاذها ذريعة، تنفي فرضيتنا الأساسية في هذا المقال، هذه الفرضية هي، أنه يوجد سبب عصي أقوى من كل الوزراء على اختلاف مشاربهم وخبراتهم، هو الذي يسد باب الخروج أمام مصر من أزمتها الاقتصادية المزمنة، والتي نتفق جميعا بلا أدنى خلاف، أنها تزداد تعقيدا مع الأيام ، ولن يكون هذا السبب، شيئا سوى السياسات العامة، أو السياسات العليا (بالتعبير  المحبب للسلطوية المصرية).

هذه السياسات العليا التي تعوق انطلاقتنا الاقتصادية، تتوزع ما بين اختيار استراتيجي أصلي، وما بين اختيارات تطبيقية متنوعة.

الاختيار الاستراتيجي الأصلي الذي ينتقل مع كل أطوار دولة ضباط يوليو، هو ألا تؤدي التنمية بأي حال من الأحوال إلى تبلور قوي إنتاجية، يمكن أن تكون شريكا في الحكم والقرار، والمقصود هنا تحديدا، هو كل من الطبقة الرأسمالية، أو ما يسمى بالقطاع الخاص، أو رجال الأعمال، والطبقة العاملة، إذ يجب إن تظل هذه القوى تابعة ومحكومة، وغير منظمة، فتكون أولوية  الرأسماليين مثلا، الاعتماد على السلطة لقمع العمال، وليس توسيع و تحصين الدور الاقتصادي و السياسي للرأسمالية، وكذلك العمال يبقون تحت رحمة السلطة؛ لحماية بعض حقوقهم من أصحاب الأعمال، بما أنهم الطرف الأضعف في هذا المثلث.

هذا يعني ببساطة حرمان القطاع الخاص من الدور الأساسي في الصناعات، والقطاعات الاستراتيجية، وإبقائها تحت هيمنة، بل وملكية الدولة، فإذا كانت الدولة غير قادرة على التمويل (مثلا)، فلا مانع من التباطؤ، أو التأجيل، أو حتى الإلغاء، وكم رأينا من مشروعات، توقفت أو أهملت لهذا السبب!

أما الاختيارات التطبيقية، فأمثلتها عديدة، من أول تبنى منهج التنمية بالمشروعات، بدلا من التنمية بالسياسات، إلى اختيار المشروعات ذاتها، وتحديد أولوياتها، بل ووصل الأمر في الطور الحالي من أطوار دولة يوليو، إلى تحديد الجدول الزمني لهذا المشروع أو ذاك، على حساب الاعتبارات الفنية والتمويلية الأساسية لاقتصاديات أي مشروع في الدنيا الواسعة.

هنا نحتاج وقفة مع الادعاء، بأن التركيز المبالغ فيه في السنوات الماضية على مشروعات البنية الأساسية، إنما هو وصفة مجربة في دول كثيرة؛ لتحفيز النمو، وذلك تطبيقا لمذهب لورد كينز المشهور، إذ أن هذا القول ليس صحيحا، إلا في الدول التي تملك جهازا إنتاجيا كفؤا ومرنا، لكنه يعاني من الركود؛ بسبب الانكماش الاقتصادي، فيستجيب هذا الجهاز فورا؛ لزيادة الطلب الناتج عن الإنفاق على البنية الأساسية، لكن ليس هذا حال مصر، بل ربما يكون العكس هو الصحيح، فزيادة الإنفاق على مشروعات البنية الأساسية، أدى  أساسا إلى زيادة الطلب على المدخلات المستوردة في هذه المشروعات، ولما كانت نسبة هذه المدخلات كبيرة جدا، فقد أدى ذلك إلى زيادة الضغط على الجنيه، وإلى زيادة الديون الأجنبية، على نحو ما نرى حاليا.

مرة أخرى وأخيرة الاقتصاد في كل الدنيا اسمه الاقتصاد السياسي.