يعد الحق في الصحة ركنًا رئيسًا، ولا غنى عنه من حقوق الإنسان الأساسية، وقد تم التأكيد عليه في معاهدات حقوق الإنسان الدولية والإقليمية، وفي الدساتير الوطنية في جميع أنحاء العالم، وترتبط الصحة بالإنسان ارتباطًا وثيقًا، لأنها تمكنه، من أن يعيش حياة سليمة وكريمة، وزادت أهميتها في العصر الحديث، وتحديدًا في إطار المجتمع الدولي. ويعني الحق في الصحة، أنه على الحكومات أن تهيئ الظروف، والإمكانيات التي يمكن فيها لكل فرد الحصول على الرعاية الصحية المناسبة، والميسورة التكلفة ذات الجودة المناسبة في التوقيت المناسب، وهو حق شامل، يتضمن أيضًا المقومات الأساسية للصحة مثل، الحصول على مياه الشرب المأمونة، والإمداد الكافي بالغذاء الآمن والتغذية والمسكن، والظروف الصحية للعمل والبيئة، والحصول على التوعية والمعلومات، فيما يتصل بالصحة.
وإذ أنه وفق الدستور المصري، فإن على الدولة أن تخصص نسبة من الإنفاق الحكومي للصحة، لا تقل عن 3 % من الناتج القومي الإجمالي، تتصاعد تدريجيا، حتى تتفق مع المعدلات العالمية، فهل يتفق ذلك مع ما يعرض في أروقة مجلس النواب من مشروع قانون، تقدمت به الحكومة بمنح التزام المرافق العامة؛ لإنشاء وتشغيل وتطوير المنشآت الصحية.
وقد تناول مشروع القانون الجديد، أن مقدم الخدمة الصحية، أي شخص طبيعي منوط به تقديم الرعاية الطبية، أو الصحية أو التمريضية أو الرعاية اللاحقة، أو توفير البيئة العلاجية المناسبة، من الحاصلين على ترخيص بمزاولة إحدى المهن الصحية وفقا لأحكام القوانين المنظمة للحصول على تلك التراخيص، والخدمات الصحية التي تعرف، بأنها الإجراءات الطبية أو الفحوصات المعملية أو الإشعاعية التي يتم تقديمها بمعرفة مقدم الخدمة الصحية، أو يشترك في القيام بها، وتشمل الكشف أو العلاج أو إجراء الفحوصات الطبية، أو الفحص السريري أو المشورة الطبية أو العمليات الجراحية أو التمريض، أو وصف الأدوية أو الإقامة في المنشآت الصحية؛ لتلقي الخدمات الطبية أو النقاهة أو تقديم الخدمات الوقائية.
كما تناول أنه يجوز منح التزامات المرافق العامة للمنشآت الصحية للمستثمرين المصريين أو الأجانب، وذلك وفق مجموعة من الاشتراطات هي: الحفاظ على المنشآت الصحية، وما تشتمل عليه من تجهيزات وأجهزة طبية لازمة، وأن يتوافر في الملتزم الخبرات اللازمة؛ لتشغيل المنشأة الصحية، عدم التنازل عن الالتزام للغير، دون الحصول على إذن من مجلس الوزراء، وألا تقل مدة الالتزام عن ثلاثة أعوام، ولا تزيد على خمسة عشر عاماً، وأيلولة جميع المنشآت الصحية، بما فيها من تجهيزات وأجهزة طبية لازمة؛ لتشغيلها إلى الدولة في نهاية مدة الالتزام، دون مقابل وبحالة جيدة، وذلك فيما عدا المنشآت التي تسمح شروط الالتزام للملتزم باستئجارها من الغير. على أن يصدر بمنح الالتزام، وتحديد سائر شروطه وأحكامه أو تعديلها وحصة الحكومة، وأسس التسعير مقابل الخدمات الصحية، للمنشأة الصحية بانتظام واضطراد في حدود القواعد والإجراءات السابقة، قرار من مجلس الوزراء بناء على اقتراح الوزير المختص، على أن تبدي الجهات المعنية الرأي في شأن منح الالتزام خلال شهر من تاريخ طلب رأيها.
ويبدو أن الحالة الاقتصادية التي تمر بها الدولة قد دفعتها إلى محاولة؛ لإيجاد مصادر مالية من خلال استحداث هذا التشريع بغض الطرف عن التزامها الدستوري، وبغض الطرف أيضا عن الظروف التي يمر بها المواطنون جراء الأزمات الاقتصادية التي تحاصر الدولة في كافة قطاعاتها، هذا بخلاف ما جاء عليه قانون التأمين الصحي الشامل، والذي بمقتضاه، أن “التأمين الصحي الاجتماعي الشامل نظام إلزامي، يقوم على التكافل الاجتماعي، وتُغطي مظلته جميع المواطنين المشتركين في النظـام، وتتحمل الدولة أعباءه عن غير القادرين. وتكون الأسرة هي وحدة التغطية التأمينية الرئيسية داخل النظام”. ويدار هذا النظام عبر آلية فصل التمويل عن تقديم الخدمة، ولا يجوز للهيئة تقديم خدمات علاجية أو الاشتراك في تقديمها. ويطبق أحكامه تدريجيا على المحافظات التي يصدر بشأنها قرارات من رئيس مجلس الوزراء بناء علي عرض وزير الصحة ووزير المالية.
لا أرى أي طريق من الممكن، أن يتواجد فيه نصوص القانونين معاً، أو يسيرا معا في قالب واحد مع التزامات الدولة الدستورية بكفالة الحق في الصحة، ذلك بخلاف الالتزامات الدولية بموجب، ما صادقت عليه من اتفاقيات ومواثيق وعهود دولية، وقد قامت لجنة الأمم المتحدة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية عام 2000، والتي تتولى رصد الامتثال للعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، باعتماد تعليق عام بشأن الحق في الصحة. ويقضي التعليق العام، بأنّ الحق في الصحة لا ينطوي على توفير خدمات الرعاية الصحية في الوقت المناسب فحسب، بل ينطوي أيضاً على محددات الصحة الدفينة، مثل توفير المياه النقية والصالحة للشرب، والإمدادات الكافية من الأغذية والأطعمة المغذية المأمونة، والمساكن الآمنة وظروف مهنية وبيئية صحية، وتوفير وسائل التثقيف الصحي والمعلومات الصحية المناسبة، بما في ذلك في مجال الصحة الجنسية والإنجابية.
لكن جاء مشروع القانون المستحدث بشكل لا يوفر أي التزام من هذه الالتزامات، إذ أنه في قالبه الرئيسي لا يعدو، سوى قانون لتقنين آلية استغلال المنشآت الصحية القائمة والمملوكة للدولة، وهو ما يعني، أن الدولة تسعى أن تخرج ولو بشكل تدريجي، أو بحصة أو نسبة محددة، وهذا ما ينذر بمزيد من الأزمات المجتمعية، ومن زاوية ثانية، فإن سياق التشريع على هذه الوتيرة يضع أمور الصحة في سياق قانوني متناقض وغير متسق، ما بين الإلزام الدستوري، وقانون التأمين الصحي الشامل، والقانون المستحدث.
فهل ستتخلى الدولة عن تحقيق الخطوات التي بدأتها تنفيذاً بتفعيل نصوص قانون التأمين الصحي، تاركة بذلك الخدمة الصحية بين يدي المستثمرين، وهو ما يعني، أن تصبح الخدمات الصحية مجرد سلعة، تخضع لآليات السوق ما بين المريض والمستثمر؟
كما وأن التطورات الاقتصادية والاجتماعية المتوالية تخلف حتما أعباء ثقيلة على عاتق الدول من جوانب مختلفة، يلزم أن تكون الدولة مواكبة لها ومتطورة بتطورها، فتلجأ إلى التماس أفضل الحلول نجاحاً؛ لمجابهة تلك التطورات والمستجدات، بما يجلب لها منافعها ويدفع عنها مضارها، وبما يواكب التطورات الاقتصادية والاجتماعية المتسارعة، وإن عدم مجابهة التشريع وعدم مسايرته للتطورات التي تحدث في الدولة اقتصاديًا واجتماعيًا، إنما يخلق فجوة عميقة بين نصوص التشريع القائم والواقع العملي الذي تعيشه الدولة، الأمر الذي يعد بلا ريب إحدى عيوب التشريع. كما يجدر التنويه، إلى أن دور التشريع الهام في تحقيق التنمية لا يعني، أن هناك قالبا ثابتا للتشريع وتحقيقه للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، بل يجب أن تكون التشريعات بحسبها من أهم العلوم الاجتماعية متطورة مع تطور المجتمع، ومع ما يتناسب من احتياجاته.