كثيرة هي التحديات التي تضغط على الاقتصاد المصري. أكثر التحديات الراهنة هي تلك التي تحد من مصادر النقد الأجنبي للبلاد. ففي إطار وجود 165 مليار دولار دين خارجي، تصبح الحاجة ماسة؛ للمزيد من الدخل من العملات الأجنبية، حتى يتسنى التعامل مع الموقف المرتبط، ليس فقط بالحد من الواردات السلعية، التي ستكون بعدئذ لا زالت تفوق حجم الصادرات، بل أيضا دعم مصادر النقد الأجنبى الأخرى.

وكل ذلك بغرض اللحاق أولا بسداد الأعباء العاجلة الممثلة في خدمة الدين، والتي قدرها البنك المركزي عام 2024 بمبلغ 24,229 مليار دولار (موقع العربية 3 أكتوبر 2023)، منها 6312 مليار دولار فوائد، و22917 مليار دولار أقساط الدين. تنخفض في العام 2025 إلى 19,434 مليار دولار، وتعود فترتفع إلى 22,940 مليار دولار عام 2026، وكل ما سبق على افتراض ثبات الأوضاع على ما هي عليه، أي الامتناع عن المزيد من القروض الخارجية.

قناة السويس واحدة من أهم مصادر العملات الأجنبية لمصر، فهي الثالثة في مصادر النقد الأجنبي بعد تحويلات المصريين في الخارج والسياحة. أما التجارة الخارجية، فلا تعتبر هكذا؛ بسبب حال الخلل في الميزان التجاري، ما يجعل حصيلة الصادرات، تُلتهم كلها-ويزيد- من قبل الواردات السلعية.

لا شك أن عوائد قناة السويس في ارتفاع متواصل خلال السنوات العشر الماضية، فوفقا لبيانات البنك المركزي، فإنه خلال السنة المالية 12 /2013 كان العائد 5 مليارات دولار، ارتفع إلى 5,4 مليارات دولار في السنة المالية 13 /2014، قبل أن ينخفض في العامين الماليين التاليين إلى 5,1 مليارات دولار، ثم ينخفض في العام 16 /2017 إلى 4,9 مليارات دولار، ثم يبدأ في الارتفاع التدريجي إلى 5,7 مليارات دولار في كل من العامين الماليين 17 /2018 و18 /2019. فيواصل الارتفاع عام 20 /2021 إلى 5,9 % فـ 7مليارات دولار، و9.4 مليارات دولار على الترتيب في العامين الماليين 21 /2022، و22 /2023. وقد ساهمت قرارات رفع أسعار المرور، وتوسعة القناة، وزيادة حجم التجارة الخارجية في الارتفاع، وكان لانخفاض أسعار النفط الدور الأكبر في الانخفاض.

لكن، وكما سبق، فإن كل ذلك على أهميته، لا يعدو أن يتراوح ما بين خمس إلى ثلث حجم تحويلات المصريين في الخارج والسياحة معا. ففي العام 22 /2023 بلغ المصدران الأخيران 22.1 و13,6 مليار دولار على التوالي، وفي العام 21 /2022 كانا 10,7 و31.9 مليارات دولار على التوالي.

اليوم ينتظر، أن تخفض في العام المالي الحالي 23 /2024 عائد قناة السويس، وذلك بفعل التأثر بضربات جماعة أنصار الله الحوثي في اليمن للسفن المتجهة إلى الكيان الصهيوني في باب المندب وخليج عدن وبحر العرب، وهي الضربات التي زاد من وطأتها، وفاقم من آثارها التدخل الغربي، عبر عمليات عسكرية ردا على جماعة أنصار الله، ما جعل الملاحة مهددة، بعد أن كانت هجمات الحوثيين قاصرة على حركة السفن المتجهة إلى فلسطين المحتلة في ميناء أم الرشراش(إيلات) عبر خليج العقبة، أو ميناء حيفا وأشدود على البحر المتوسط.

بعبارة أخرى، لقد كان من المُحجِم للأزمة إعلان شركات الملاحة العالمية توقف حركة التجارة عبر باب المندب إلى المواني الصهيونية مؤقتا. أما الرد الغربي على عمليات الحوثي، فقد ضخّم المشكلة، فهو لم يردع الجماعة ولن يردعها، لأن السفن التجارية الراغبة في الاقتراب أو القريبة بالفعل، أصبحت تشاهد في السماء رد ورد مقابل من فوقها.

وعلى أي حال، فما دام أن لكل حرب نيران صديقة، فقد كانت قناة السويس أول قطاع تخوف الكثيرون منه، أن يكون هو الهدف غير المقصود من تلك العمليات، فهذا الممر الملاحي الرابط بين كل من آسيا واستراليا وشرق إفريقيا من ناحية وبين أوروبا والمشرق الأمريكي من ناحية أخرى، تمر به 12 % من حجم التجارة العالمية، وهو الممر الاصطناعي البحري الأطول عالميا، كما إنه بلا أهوسة، وهو القابل للتوسعة والتعميق، ويدار بنظم تحكم دقيقة، تجعل نسبة الحوادث فيه لا تذكر تقريبا. لذلك كله ونظرا لتوفير مسافة بين 17 و22 يوما، تقطعها السفن بالمرور حول رأس الرجاء الصالح، فإن المرور عبر قناة السويس يصبح مُنجِزًا للوقت وموفرًا للمال، وداعما لسرعة حركة الاستثمار.

أما بشأن الرد المصري على عمليات جماعة أنصار الله الحوثي، فقد أخذ موقف التمهل المرافق للتحرك الدبلوماسي، إذ أنه منذ البداية، رفضت مصر المشاركة في تحالف “حارس الازدهار” الذي أعلنت عنه الولايات المتحدة، وشاركت فيه نحو عشرة بلدان، لم يشارك فيها سوى دولة عربية واحدة هي البحرين. وكان رفض مصر للمشاركة في تلك العملية مرده إلى عدة أمور منها، الخشية من أن تفسر مشاركتها، على أنها دعمًا للولايات المتحدة؛ بسبب ضغوط قد يقال إنها مورست على مصر في هذا الصدد. كما أن تلك المشاركة سوف تفسر فى الداخل المصري، على أنها دعمًا لإسرائيل، وهو أمر ترفض مصر بالقطع، أن تتهم به.

من ناحية ثانية، فإن مصر التي لم تشارك في التحالف العربي ضد اليمن، دعما للعربية السعودية، منذ أن استولت جماع أنصار الله الحوثي على السلطة بالكامل هناك في فبراير 2015، يصعب للغاية أن تشارك اليوم في ضرب الجماعة، حتى لو كان بسبب تأثر الملاحة في قناة السويس.

من ناحية ثالثة، فإن الدبلوماسية المصرية التي لا تعتمد على مشاركة موسعة لقوات عسكرية مصرية خارج البلاد، إلا في أضيق الحدود، كان آخرها حرب تحرير الكويت، تلك الدبلوماسية تستمر أيضا على ذات النهج في حدث اليوم، حيث اعتذرت مصر للولايات المتحدة عن المشاركة في “حارس الازدهار” لما لتلك المشاركة من تفسير شعبي على دعم إسرائيل، والأهم من ذلك اليقين أن المعوقات التي يسببها أنصار الله في باب المندب أمر مؤقت، وهي ترتبط بعلاج السبب الرئيس، وهو إنهاء عدوان إسرائيل على غزة المدعوم أمريكيا. أما الاتصالات المصرية مع جماعة أنصار الله الحوثي، فقد جرت بالفعل عدة اتصالات في الأسابيع الماضية، فحواها ضرورة الحد من تلك الهجمات، لأنها كرادع أدت وظيفتها، كما أوضحت مصر للجماعة، أنها رفضت المشاركة في أي عمل ضدها.

من ناحية رابعة، فإن الأوضاع الاقتصادية المصرية الراهنة لا تشجع على المشاركة في أي عمل من هذا النوع، صحيح أن الغرض هو رفع العبء عن قناة السويس، لكن مصر ترى الأمور من زاوية أن العواقب والتأثير الاقتصادي بعدها، سيكون أيضا مكلفا لخزينة الدولة الخاوية بداية، كما أن الولايات المتحدة وحلفاءها يقودون تلك العملية بشكل واسع، ومن ثم فلن يكون هناك أي داع للمشاركة في جهد، يقوم به آخرون، ناهيك عن عدم قناعة مصر؛ نتيجة خبراتها السابقة في اليمن، التي يحلو لبعض العسكريين المصريين، أن يسموها فيتنام المصرية، وكذلك النظر إلى خبرة التحالف العربي بقيادة العربية السعودية، بأن أي عمل عسكري قد يفضي إلى نتائج إيجابية.

وكانت جماعة أنصار الله الحوثي قد عبرت في أكثر من مناسبة عن دعمها لمصر في مواجهة سياسة الكيان الصهيوني في غزة، كما أشارت على لسان محمد على الحوثي عضو المجلس السياسي الأعلى للجماعة في مطلع ديسمبر 2023، أن على الكيان الصهيوني أن يعتبر قناة بن جوريون، وهو المشروع الذي يزمع من خلاله ربط خليج العقبة بالبحر المتوسط، والذي يقوض حتما قناة السويس، أن “يعتبره الكيان الصهيوني من آثار الماضي” ( CNN عربي 4 /12 /2023) وهذا التصريح تكمن أهميته في إشارة الحوثي الضمنية إلى تهديد الجماعة أي مشروع صهيوني مستقبلي، يلغي أو يحيد قناة السويس.

خلاصة القول، أن مصر لن تحارب من أجل عمليات الحوثي، وإن كانت قد فعلت فمن باب أولى، تكون قد حاربت إثيوبيا التي ترغب في منع مصدر الحياة عن مصر، المياه العذبة، وهي في الأخير تراهن على أن الموقف سينتهي عاجلا بنهاية الحرب التي يشنها الصهيوني على غزة، وقد سبق للقناة أن تعرضت لتحديات سابقة خاصة بتلغيم خليج السويس، منذ ثلاث عقود ونيف، على هامش مساعدة مصر للعراق في حرب الخليج الأولى. وهي تستقبل كل ما يهدد القناة بنوع من الصبر والتروي، كما فعلت في رؤية مبادرة الحزام والطريق الصينية 16 /2017، أو مشروع الممر الاقتصادي المعلن عنه في قمة العشرين بالهند (9-10 سبتمبر 2023).

على هذا الأساس، فإن ما يحدث اليوم بقناة السويس قد يكون فرصة؛ لتحسين أوضاع مصادر النقد الأجنبي الأخرى، كالتحويلات التي قلت في السنة المالية 22 /2023 عن العام المالي السابق من 31.9 مليارات دولار إلى 22,1 مليار دولار، وكذلك زيادة حجم الصادرات، كما وعدت القيادة السياسية إلى 100مليار دولار كمستهدف.