إثر الهجوم الإسرائيلي على خطوط الغاز في عدة مناطق حيوية واستراتيجية بإيران، فإن ما عرف بـ “حروب الظل” بين البلدين أصبح يشهد انعطافة جديدة. إذ تتسع نطاقات الاشتباكات لحدود غير تقليدية، وتطاول ما هو أبعد من القواعد المعتمدة منذ سنوات. وهناك حوادث سابقة، اعتمدتها إسرائيل أو قوى إيرانية معارضة (تتهمها طهران بتبعيتها لإسرائيل) عبر الهجمات السيبرانية على محطات البنزين. لكن الهجوم الأخير والمباغت في محافظتي فارس، وجهار محال وبختياري، كان الأعنف، وقد تسبب في تعطل العديد من الخدمات في المدن والقرى بعد انقطاع إمدادات الغاز عنهما.

ونقلت وكالة الأنباء الإيرانية “إرنا” عن وزير النفط الإيراني، جواد أوجي، قوله إن المتهم هم “أعداء إيران” على حد توصيفه من دون تسمية دول أو جهات. وقال الوزير الإيراني: “عدا عن قطع الغاز عن عدد من القرى، فإن هدف العدو بقطع الغاز عن المحافظات الكبرى لم يتحقق”. فيما أشارت الوكالة الإيرانية الرسمية لـ”حالة من الذعر”، عمت المواطنين في محافظة جهار محال وبختياري، نتيجة دوي الانفجار.

ضغط مباشر

وفيما يبدو، أن إسرائيل التي تخفق في الضغط على الولايات المتحدة؛ لتنفيذ هجمات في الداخل الإيراني، تباشر هي توسيع الصراع مع طهران من خلال تنفيذ عدة عمليات مباشرة، تستهدف بنيتها التحتية للطاقة. فضلاً عن البنية العسكرية في المواقع التابعة للكيانات المسلحة التابعة لها، والمتاخمة لحدودها، لا سيما لبنان وبطبيعة الحال حزب الله. ففي غضون أيام من تنفيذ الهجوم على محطات الغاز، والذي يماثل الهجمات السيبرانية السابقة؛ لتعطيل الخوادم التابعة لوزارة النفط الإيراني، وإحداث اضطرابات في محطات الوقود، استهدف الطيران الإسرائيلي منشأتين قال، إنهما لتخزين سلاح حزب الله بالقرب من مدينة صيدا.

تزامن التصعيد أو توسيع الصراع بهذا القدر، يكشف عن ميل حاد لدى إسرائيل للضغط على إيران بشكل مباشر، بل واستفزازها للدرجة التي تجعلها، تخوض صراعاً مباشراً،وليس عبر القوى الولائية “هي التي تدين بالولاء لإيران من خارج إيران”. فحكومة بنيامين نتنياهو ترفع درجة التوتر، بينما تلتزم طهران بمبدأ “الصبر الاستراتيجي” الذي ألزم به المرشد الإيراني علي خامنئي الحكومة والنظام. وفي حين تواصل طهران إيفاد ممثليها بداية من قائد فيلق القدس، إسماعيل قاآني، وقبله الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي أكبر أحمديان، إلى بغداد؛ بهدف ضبط ردود فعل وممارسات الفصائل المسلحة المنضوية، ضمن ما يعرف بـ “الحشد الشعبي”، وتوقف الهجمات على القواعد الأمريكية، منذ ما يربو على الأسبوعين، فإن تل أبيب تواصل تصعيدها الخشن، وتضع الجميع على الحافة.

ونقلت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية عن كبير محللي الطاقة في شركة كبلر، هومايون فالكشاهي قوله: “كان مستوى التأثير مرتفعاً للغاية؛ لأن هذين الخطين مهمان يتجهان من الجنوب إلى الشمال”. وتابع: “لم نشهد شيئًا كهذا من حيث الحجم والنطاق”.

وقال فلكشاهي، إن الانفجارات كشفت عن مدى ضعف البنية التحتية الحيوية للبلاد أمام الهجمات والتخريب. وقال إن إيران، ثالث أكبر منتج للغاز الطبيعي في العالم، تمتلك نحو 40 ألف كيلومتر من خطوط أنابيب الغاز الطبيعي، معظمها تحت الأرض. وأضاف أن خطوط الأنابيب مخصصة في المقام الأول للاستهلاك المحلي، وأنه بسبب العقوبات، كانت صادرات إيران من الغاز ضئيلة، ومقتصرة على تركيا والعراق. وتابع: “من الصعب للغاية حماية هذه الشبكة الواسعة للغاية من خطوط الأنابيب، ما لم تستثمر المليارات في التكنولوجيا الجديدة”. وأضاف إن إصلاح الأنابيب المتضررة سيتطلب قطع الغاز، ومن ثم استبدال الأنابيب، وهو ما قد يستغرق أيامًا.

اللافت أن الوزير الإيراني أوجي، الذي وصف الانفجارات، بأنها “هجمات تخريبية وإرهابية”، تفادى أي تلميحات تتصل بإسرائيل أو غيرها والتزم في تصريحاته نبرة تهدئة. بيد أنه شدد على هدف الهجوم الذي هو ضرب البنية التحتية للطاقة، وإثارة الاحتجاجات الداخلية.

لكن صحيفة “نيويورك تايمز” نقلت عن أحد المسئولين الغربيين، قوله إن التفجيرات هي “ضربة رمزية كبيرة، كان من السهل إلى حد ما على إيران إصلاحها، ولم تسبب سوى ضرر بسيط نسبيًا للمدنيين”. وأوضح في الآن ذاته، بأن الضربة بمثابة تحذير مباشر بشأن الضرر الذي يمكن، أن تلحقه إسرائيل في حال انتشار الصراع في المنطقة، وتصاعد التوترات للدرجة القصوى بين إيران وخصومها، أي إسرائيل والولايات المتحدة.

ونقلت “نيويورك تايمز” عن مسؤولون غربيين، قولهم إن إسرائيل تسببت أيضًا في انفجار منفصل داخل مصنع للكيماويات بالقرب طهران، مع الأخذ في الاعتبار أن البيانات الرسمية في طهران أكدت، أن هذا الانفجار كان بسبب حادث في خزان الوقود بالمصنع.

وتقول الصحيفة الأمريكية: “إيران تدعم وتسلح شبكة من الفصائل المسلحة التي تخوض حربًا، ضد مصالح إسرائيل والولايات المتحدة، كالحوثيين في اليمن، وحزب الله في لبنان والجماعات المسلحة في العراق وسوريا. كما قامت إيران بتسليح وتدريب حماس وآخرين داخل قطاع غزة”.

ورغم التقليل من شأن الهجمات، سواء من الجانب الرسمي الإيراني، أو حتى الصحيفة الأمريكية، والأخيرة اعتبرت، أنها مجرد “رسالة” وحادث له دلالة “رمزية” على ما قد يحدث في حال تطور الصراع، إلا أن الحقائق تكشف عن نتائج أخرى. وذلك إذا أخذنا في الاعتبار، أن خطوط الأنابيب وحمولتها ملياري قدم مكعب من الغاز يوميًا، وهي ممتدة لمسافة 800 ميل، قد تسببت في تعطيل نحو 15 بالمئة من الغاز المسال الذي يتم إنتاجه بشكل يومي في إيران. وتصل خطوط الأنابيب بالغاز في الجنوب حتى المدن المركزية كالعاصمة طهران وأصفهان. في حين أن أحد تلك الخطوط المستهدفة يصل حتى أبعد الطرق الحدودية المتاخمة للحدود الشمالية مع أذربيجان.

كما ذكر المسئول في شركة الغاز الوطنية، سعيد أكلي، أنه عقب الانفجار اجتمع مسئولون إيرانيون بداية من وزير النفط مروراً بممثلين من وزارة الخارجية وحتى المؤسسات الأمنية والمخابرات، مشيراً إلى أن الهدف من الحادث هو تدمير نحو 40 بالمئة من إمكانيات نقل الغاز في إيران.

اللافت في تقرير الصحيفة الأمريكية، كان التلميح أو الإشارة على لسان مصدر، هو خبير استراتيجي في دوائر الحرس الثوري (لم تكشف عن هويته)، بوجود خرق في البنية الأمنية لإيران، وهذا الأمر يعد الأخطر في كل الهجمات السابقة. حيث إن المنطقة التي طاولها التفجير، وتمتد فيها خطوط الأنابيب، بينما ينتقل عبرها الغاز من خلال مسافات شاسعة، تتضمن الصحاري والجبال والحقول الريفية، تتناوب عليها دوريات حراسة في نقاط أمامية على طول الأنابيب. بل إن هذه الدوريات لا تتوقف إلا في لحظات محدودة، وربما استغل المهاجمون هذه الثغرة بفعل توصلهم لمعلومة حول “فترات الاستراحة”.

انعطافة واختبار والتوسعة واردة

إذًا، مثلت الاستهدافات الإسرائيلية الأخيرة انعطافة جديدة، ولافتة في مسار حروب الظل بين تل أبيب وطهران، والتي يتم تبادلها في نطاقات مختلفة وبوسائط متعددة. لذا، حذر شاهين مدرس، وهو محلل أمني مقيم في روما مختص بقضايا الشرق الأوسط في تصريح للصحيفة الأمريكية، بأن “الشبكات السرية العاملة في إيران وسعت قائمة أهدافها، وتقدمت إلى ما هو أبعد من المواقع العسكرية والنووية فقط. إنه تحدٍ كبير وضربة لسمعة وكالات الاستخبارات والأمن الإيرانية”.

في حديثه لـ “مصر 360″، يقول الباحث المصري المختص في القضايا الدولية، الدكتور عبد السلام القصاص، إن فكرة توسيع الصراع “لا يمكن استبعاده”، خصوصاً مع حكومة متطرفة على قمتها بنيامين نتنياهو. الأمر الذي يظهر في حجم الخلافات التي تراكمها سياساته المتشددة مع إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن. بل إن الجهود الدبلوماسية في لبنان، والتي تتولى إدارتها فرنسا وأمريكا ووسطاء إقليميون آخرون؛ بهدف الوصول إلى تسوية وإنهاء الاشتباكات التي تجري في الجنوب اللبناني، وعلى المستوطنات الشمالية في إسرائيل، تبددها إسرائيل من خلال ضرب العمق اللبناني، مرة في النبطية، ومرة أخرى في صيدا قبل أيام قليلة.

ويشير القصاص، إلى أن الهجوم الأخير في الداخل الإيراني، هو بمثابة محاولة لاختبار “رد الفعل” الإيراني، ومواصلة الاستراتيجية الإسرائيلية في الضغط للحدود القصوى على نفس طريقة سياسة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والذي انتهج سياسة “الضغط الأقصى”.

لكن الأكثر ترجيحاً، أن “إسرائيل تضغط على طهران بنفس سلاح النفط الذي تناور به، وتهدد من خلاله المصالح في الغرب والولايات المتحدة وإسرائيل باستهداف السفن النفطية، وعسكرة الملاحة الدولية في البحر الأحمر بواسطة الحوثي. وليس ثمة شك في أن هناك اختراقات أمنية عديدة نجحت في إحداثها إسرائيل في بيئات خصمها الإقليمي. وكما نجحت في تحقيق عدة نتائج باستهدافات سابقة بعضها سيبراني طاول محطات الوقود، بل واغتيالات مؤثرة، كما جرى مع العالم النووي الإيراني محسن فخري زادة، فإنها تقوم بالاستفادة مجدداً؛ لتحقيق ضربات مؤثرة لإرغام طهران والفصائل التابعة لها على وقف أنشطتها، واصطفافاتها العسكرية”. يقول القصاص.

والأمن البحري بالنسبة لإسرائيل في “حالة خطورة بفعل المصالح التي تقع تحت وطأة تهديدات جمة، من دون أي ردع. فالهجمات الأمريكية “ضد الحوثيين” محدودة، وليس هناك أي دعم قوي من الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن المشاركة المحدودة للسعودية والإمارات. فإلى جانب الاعتبارات الأمنية والجيوسياسية التي تحكم الضربات التي تشنها واشنطن ولندن، وتجعل سقف أوروبا في التصعيد يبدو منخفضاً، فإن دول الخليج هي الأخرى تتخوف من التصعيد بالدرجة التي تضعها أمام حسابات، تقلب الطاولة عليها، خاصة في ظل انفتاح الرياض على مفاوضات مع الحوثي، وتستهدف إيجاد وسيلة لأفق سياسي “للخروج” من هذه الحرب الاستنزافية”.

بالتالي، فإن المواجهة في “العمق الإيراني”، واستهداف بنيتها الطاقوية، هو لإرغام طهران على وقف الدعم المستمر للحوثي، واستعادة الأمن البحري، في ظل عدم القدرة على ضبط ذلك أمام تعقيدات عديدة، وغياب الاستراتيجيات الأمنية والتوازن الهش بين القوى المنخرطة في الصراع، وفق القصاص.