حقوق الإنسان والحريات أكثر ملفات الحوار الوطني حساسية وتعقيدا. وهو الشغل الشاغل في العلاقة بين السلطة، وقطاع كبير من المعارضة في مصر، منذ سنوات عديدة. حق التظاهر، الحبس الاحتياطي، التعذيب، حقوق السجناء، المحاكمات العادلة، القضاء العسكري، منع التمييز، المنع من السفر، الحجز على الأموال، حجب المواقع الإلكترونية… إلخ. كل هذه القضايا وقضايا أخرى تشكل دوما صدعا في العلاقة بين الطرفين. لذلك كان الحوار الوطني قد أولى تلك الملفات جميعها اهتماما خاصا، رغم ضحالة العائد أو قلة المنتج منها حتى الآن، سواء من حيث نوع ومضمون المخرجات الصادرة، أو تنفيذ تلك المخرجات. ما يزيد الأمر سخونة، أن تلك الأمور جميعها لم تعد تخص السلطة والمعارضة فحسب، بل أنها مع زيادة حدة الأزمة الاقتصادية في المجتمع، أصبحت تخص العلاقة بين السلطة والمجتمع بأسره. لأن الكل، وبسبب حال الغلاء والبطالة، وضعف الأجور والتضخم المستشري، أصبح في مرمى كل قضايا حقوق الإنسان والحريات سابق الإشارة إليها، وليس فقط المهتمين بالشأن السياسي من المعارضين والنشطاء.
وعلى الجانب الآخر (أي السلطة)، أصبح هذا الملف مثيرًا؛ بسبب ضيق الصدر بالمعارضة. بعبارة أخرى، إذا كان يطلق على عهد مبارك بعهد “قولوا ما شئتم، ونفعل ما نشاء”، فإن العهد الحالي، رغم شدة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، والتي كان يفترض أن تنطلق معها بحبوحة الكلمة والنقد، (هذا العهد) لم يعد يطيق سماع نقدًا أو رؤية معارض لرأي، أو مخالف لرؤية رسمية. ولذلك زادت مع كل تلك الظروف والمعطيات المفاهيم التي تحتاج إلى معالجة كالحبس الاحتياطي وحقوق السجناء، وغيرها من القضايا سالف الإشارة إليها. بهذه الحاجة، ستكون السلطة أكثر تحررا بذات قدرالمجتمع تماما، بمعنى أنها ستكون من خلال توافر هذا المناخ الذي يسمح للناس بالتنفيس عن ذواتهم، أكثر بساطة وأكثر بعدا عن الاكتئاب السياسي، والشحذ العنفي وكراهية الناس.
في هذه الأثناء وتلك الأجواء، كان مجلس أمناء الحوار الوطني الذي بدأ جلساته الإجرائية في 5 يوليو 2022، بناء على دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسي في 26 إبريل 2022، ليبدأ من حيث المضمون جلساته في 14مايو 2023. قد ناقش عديد الأمور التي تتعلق بالحريات العامة وحقوق الإنسان. وخلال الجلسات الـ 23 التي عقدها للإعداد للحوار، لم تخلُ جلسة من الجلسات إلا وقد تردد فيها الصوت عاليا بضرورة إنهاء الملفات المتصلة بالحريات العامة، وخاصة الحبس الاحتياطي. بل لا نبالغ القول إن مجلس الأمناء أصدر عدة بيانات عن تلك الجلسات، طالب فيها بسرعة الإفراج عن المحبوسين في قضايا الرأي. صحيح أنه تجنب الدعوة لفك كروب المحبوسين احتياطيا بشكل مباشر، لأن نفرًا من أعضاء المجلس ظنوا أنه من السهولة مخاطبة رئيس الدولة بالبيانات، بشأن العفو عن سجناء الرأي، ولكن من الصعوبة التدخل في سلك القضاء من خلال دعوة النائب العام بشكل مباشر، وصريح بالإفراج عن المحبوسين احتياطيا. جدير بالذكر، أن موافقة الحركة المدنية المصرية على المشاركة في مجلس أمناء الحوار الوطني، باعتبارها الند الرئيس للسلطة في الحوار، قد قامت على أساس الإفراج عن نحو 1500 معارض من سجناء الرأي، وقد تم بالفعل قبل وخلال الجلسات الإجرائية؛ للاستعداد للحوار بالإفراج الفعلي عن العديد والعديد من هؤلاء، كما تم الإفراج عن بعضا من هؤلاء بعد بدء الحوار من حيث المضمون، لكن بقت المشكلات الأخرى المحيطة بهذا الملف، دون حل حتى اليوم، وعلى رأسها معالجة الحبس الاحتياطي من حيث المبدأ، وليس مجرد الإفراج عن أسماء بعينها، خاصة وقد تلمست الحركة المدنية نوع تدوير المحبوسين، بمعنى العفو أو الإفراج عن البعض، وإعادة القبض على البعض الأخر.
بالطبع يبدو للقارئ، أن مجلس أمناء الحوار الوطني في معالجة هذا الملف، كما لو كان يمشي على شوك، فيصدر بيانات بعبارات محددة، ويلح في الإفراج عن الناس، دون إهمال أو كلل؛ خشية من إغضاب هؤلاء بترك قضيتهم، وفي ذات الوقت العمل على اختيار عباراته بدقة، وبشكل لا يبدو فيه إغضاب أو مضايقة للطرف المقابل. لكن ما يجب قوله أيضا، إن بعض المراقبين للمشهد قد رأوا أن السلطة، ربما تحتاج إلى بيانات الحوار الوطني تلك، حتى تستجيب لطلبات العفو، أي أنها تحتاج أن يمكنها الحوار وبياناته في المساعدة في النزول من فوق الشجرة، إن جاز التعبير، لأنها في ذلك تكون قد بدت كطرف تنازل، ويحقق الرغبات الشعبية من الحوار. وقد حدث بالفعل ما يدل على ذلك عند الحكم على الباحث باتريك زكي يوم 19يوليو 2023، حيث أصدر المجلس بيانا، يطالب فيه بالعفو عنه، وهو ما تحقق بالإفراج عنه بعد يوم واحد من الحكم بسجنه، وكذلك الإفراج معه عن المحامي محمد باقر وكيل الناشط علاء عبد الفتاح. وعقب ذلك بشهر كامل، وفي 19 أغسطس، تم العفو عن أحمد دومة وبعض رفاقه من سجناء الرأي، وقد ثمن مجلس أمناء الحوار ذلك، كما ثمن في بيان له في 22 أغسطس 2023 قرار محكمة استئناف القاهرة بعدم وجود أي وجه؛ لإقامة الدعوى الجنائية بحق عديد منظمات المجتمع المدني، فيما عرف إعلاميا بقضية التمويل الأجنبي.
على أن ما تسبب في حرج بالغ للحوار، هو ذلك الموقف المسيء الذي تعرض له د. محمد زهران، مؤسس الاتحاد الوطني المستقل للمعلمين المصريين، والذي تحدث في جلسات الحوار الخاصة بالتعليم، فتم وقفه من قبل الأجهزة الأمنية بسبب ذلك، وكان الاتهام حسب المعلن، هو بذات القول المتواتر، والمعتاد الذي أزكم أنوف الكافة لعدة سنوات، وهو “الانضمام لجماعة إثارية ونشر أخبار كاذبة وتعكير السلم العام”، رغم أن “زهران” لم يتحدث سوى عن ضرورة عقد انتخابات المعلمين، ومنح المعلمين حقوقهم المالية. وقد توقفت جلسات الحوار جراء ذلك، لكن الضغوط التي مارسها المنسق العام للحوار الوطني أدت إلى الإفراج عن د. زهران، بعد 11 يوم من توقيفه (5-11سبتمبر 2023)، وقد جاء هذا الإفراج قبل أيام قليلة من الإعلان عن توقف الحوار؛ بسبب انتخابات الرئاسة، وصدور الحزمة الأول من المخرجات.
وعلى أية حال، فقد ناقش الحوار في جلساته الإجرائية الأمور المتصلة بالحقوق والحريات العامة، ويمكن تقسيم تلك الأمور في قضايا الانتخابات، وقضايا حقوق الإنسان.
بالنسبة لقضايا الانتخابات، كان أهم شيء بها هو قانون الانتخابات البرلمانية، الذي كان هو الموقف الوحيد الذي لم يتوافق المتحاورين بشأن إصدار توصية محددة حول طبيعة النظام الانتخابي المراد سن قانون حوله للعمل به في الانتخابات القادمة، ما جعل المنسق العام يخرج بمقترح؛ يسعى به لإرضاء الكافة، وذلك بجعل النظام الانتخابي يجمع بين النظام الأغلبي بشكليه الفردي والقوائم المطلقة، والنظام النسبي. جدير بالذكر أن نظام القائمة المطلقة المعمول به حاليا إلى جانب الفردي، هو نظام مهجور عالميا، وهو يعتمد على تزوير إرادة الناخبين، لأنه ينقل صوت الناخب من القائمة، التي حصلت على أقل من 50 % للقائمة التي حصلت على أعلى من الـ 50%. وهذا النظام تحبذه غالبية الأحزاب الشكلية الراهنة، لأنه يمنحها التواجد المؤكد في البرلمان دون قيود، وربما يشبه ذلك التزكية أو التعيين المقنع، الذي تقوم به السلطة بقيادة حزب مستقبل وطن الذي يترأس القائمة، ويتفاوض على تأليفها من تلك الأحزاب، وبالطبع يكون الغرض من كل ذلك هو التعاون مع السلطة التنفيذية على تشكيل برلمان، يدعم الخلل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية لصالح السلطة الأولى.
أما بشأن قضايا حقوق الإنسان، فقد رأي مجلس أمناء الحوار الوطني مناقشتها ضمن المجموعات الخمس التالية: –
المجموعة الأولى: الحق في السلامة الجسدية ومعاملة المحتجزين والسجناء، وهي تناقش بداية جريمة التعذيب، والمسئولية، وإقامة الدعوة بطريقة الادعاء المباشر من جانب الضحايا وأسرهم، وجبر الضرر النفسي والمادي والأدبي. ثم مناقشة أوضاع مراكز الإصلاح والتأهيل ومراكز الاحتجاز. ثم مناقشة اللوائح المنظمة للإشراف القضائي على ما سبق.
المجموعة الثانية: الحق في الحرية – وضمانات نظام العدالة الجنائية، وتناقش الحبس الاحتياطي، وتقييد الحرية وقواعد التعويض عنهما. التحفظ عن الأموال والمنع من السفر كتدابير احترازية. استئناف الأحكام الصادرة في الجنايات. حماية الشهود والمبلغين.
المجموعة الثالثة: حرية الرأي وتداول المعلومات. وتناقش أحكام وسائل الإعلام والصحافة، واستقلالها وحيادها وتعددها. العقوبات السالبة للحرية في قضايا النشر والعلانية والإبداع. مناقشة مشروع قانون جديد للحصول على المعلومات وتداولها.
المجموعة الرابعة: الحريات الأكاديمية. وتناقش قواعد وأحكام تشجيع التفاعل بين الجماعة الأكاديمية المصرية، ونظيرتها في الخارج. حرية البحث العلمي ومتطلباته.
المجموعة الخامسة: مفوضية القضاء على جميع أشكال التمييز.
وعلى الأرض لم تناقش جلسات الحوار المجموعة الأولى والثانية من الموضوعات سابقة الإشارة، حيث تم الإرجاء بسبب رفع الجلسات على هامش الاستعداد لانتخابات الرئاسة. وإن كان الإرجاء قد حتمه الظرف السياسي المرتبط بالقبض على د. محمد هران، والتي سممت أجواء جلسات الحوار برمتها، ما جعل عضو مجلس أمناء الحوار الحقوقي نجاد البرعي، يتحفظ على مناقشات القضايا الفرعية بالمجموعتين الأولى والثانية، لأن نفس المقرر المساعد للجنة حقوق الإنسان أحمد راغب- كما يقول البرعي- هو من الممنوعين من السفر، وبعض أعضاء اللجنة من المتحفظ على أموالهم، وكل ذلك يشكل في رأيه نوعا من الحرج في نقاش تلك القضايا في تلك الظروف.
وعندما بدأت الجولة الثانية من الحوار في 10فبراير 2024، أي عقب انتخابات الرئاسة، أعلن أن الموضوع الرئيسي للنقاش في تلك المرحلة سيكون خاص بالإصلاح الاقتصادي، وفقا لدعوة الرئيس لاستئناف الحوار، لكن المنسق العام أشار إلى أنه إلى جانب هذا الموضوع الرئيسي ستتم مناقشة باقي القضايا المعلقة الأخرى، وذلك في إشارة للمجموعتين الأولى والثانية من القضايا سالفة الذكر، إضافة إلى بعض القضايا الأخرى الأقل أهمية.
أما انتخابات الرئاسة، فقد أصدر مجلس أمناء الحوار الوطني بشأنها بيانا مطولا ومنمقا وشبة متكامل، بغرض تحسين أجواء الانتخابات الرئاسية، وذلك يوم 18سبتمبر 2023. وقد سعى البيان لأمرين أولهما، سد الفجوة الخاصة باستكمال ما لم يتم مناقشته من قضايا الحقوق الحريات، حيث أشار لضرورة قيام الدولة بمراجعة أوضاع المسجونين والمحبوسين احتياطيا والممنوعين من السفر، وكذلك تعديل بعض أحكام الحبس الاحتياطي، ودعم حرية الأحزاب، وحرية الصحف ووسائل الإعلام. أما الأمر الثاني، فتناول ضمان نزاهة الانتخابات، معددا أمورا ومؤشرات مهمة لذلك مثل، تشجيع المواطنين على المشاركة ترشيحا وانتخابا، وسهولة جمع التأييد للمترشحين، وتوعية الناخبين، والتغطية الإعلامية المتكافئة للمترشحين… إلخ. وكلها أمور على أهميتها وأهمية طرح المجلس لها بكل شفافية وأمانة، إلا أنها قد خرقت بشكل صارخ وغير مسبوق على مرأى، ومسمع من الهيئة الوطنية للانتخابات.
وهكذا يتبين أن مجلس أمناء الحوار الوطني قد أدى دورا مهما بشأن قضايا الحريات وحقوق الإنسان، رغم الأجواء المقيدة. أي أنه فعل كل ما هو ممكن في إطار المتاح من أوراق ضغط. وقد لعب المنسق العام وبتشجيع، وحث من بعض أعضاء المجلس دورا محوريا في ذلك، وكانت لقدراته التفاوضية دورا في تمرير، وتيسير عديد العقبات. ولا شك أن هذا الدور من المجلس يحتاج إلى المزيد من المثابرة؛ لاستكمال تلك المسيرة الطويلة، سعيا في تنقية الأجواء، وتحرير الإنسان، والخروج من شرنقة القيود والمكبلات التي تعوق حرية الرأي والتعبير.