ربما لم يتوقع أغلب المراقبين، أن يشهدوا اليوم الذي يزور فيه الرئيس التركي أردوغان القاهرة، ويصف الرئيس السيسي بـ “الأخ المحترم”، ويرافقه في زيارة لضريح الإمام الشافعي مرتدياً “الطاقية البيضاء” المثقبة التي يرتديها خطباء الجمعة، وأئمة المساجد والزوايا الصغيرة في القاهرة عادة،
لكن المؤكد أن “الواقعيين” منهم كانوا يترقبون هذه الخطوة، وربما كانوا يتوقعونها في وقت أقرب، مما حدث بالفعل، ويبقى السؤال الذي يبدو” واقعيا” أيضاً متى يتكرر الأمر ذاته مع الرئيس الإيراني، الذي لم يسبق أن اتهم السيسي، بأنه “انقلابي” كما فعل أردوغان، كما لم يدعم منابر إعلامية، تهاجم النظام الرسمي رغم علاقة وثيقة، ربطت بين إيران وجماعة “الإخوان المسلمين” التي أزاحها السيسي عن سدة الحكم في مصر.
الأكثر واقعية ربما يؤكدون، لمن يطرح السؤال أن هذا لن يحدث قريباً، وربما لن يحدث أبداً، ويمكننا الاتكاء على تفسير بسيط، هو أن الخلاف بين القاهرة وطهران خلاف خيارات، وليس خلاف سياسات أو مصالح .
ربما تكون الإجابة أعقد قليلاً، في عام 2014، شارك وزير الخارجية الإيراني في حفل تنصيب السيسي رئيساً، عندما كانت هناك دول وقوى إقليمية، وغربية تصف ما حدث، بأنه “انقلاب”، وقال عبد اللهيان نصاً::”لدينا رغبة شديدة ومؤكّدة في ملاحظة التقدم والتطور في العلاقات بين البلدين الشقيقين. وخلال لقاءاتي مع المسؤولين المصريين هذه المرة، أبديت رغبتنا في فتح صفحة جديدة للعلاقات، ووجودنا في القاهرة والمشاركة في حفل التنصيب دليل على هذه الرؤية. إيران ترحب بلقاءات على أعلى مستوى، ونتمنى أن تصل العلاقات الثنائية إلى درجة تناسب حجم البلدين وقوتهما، حتى نشهد لقاء على مستوى رؤساء البلدين”.
لم تتحقق رغبة عبد اللهيان وبلاده، ولا سبب معلن لتجاهل القاهرة إشارات طهران الودودة،
قبل أشهر نقلت وكالة أنباء مهر الإيرانية أنباء عن نواب إيرانيين تصريحات بقرب إعادة فتح سفارتي مصر وإيران في كل من القاهرة وطهران، عقب زيارة للسلطان العماني لطهران، نوقش فيها ملف العلاقات المصرية الإيرانية، ولم تتحقق تلك الأمنيات أيضاً،
يمكننا بداية استبعاد بعض “الكليشيهات” التي تتردد ارتباطا بالتساؤلات عن العلاقة بين البلدين، مثل مسألة وجود شارع في طهران، يحمل اسم قاتل السادات، أو احتلال إيران لثلاث جزر إماراتية، وصولا لاحتلالها “الأحواز”، وترهات المد الشيعي.
حتى من يطلق هذه الردود سابقة التجهيز، يعلم تهافتها، والآن بعد استقبال رئيس تركيا التي تحتل لواء الإسكندرونة، وتستضيف معارضين لا يكفون عن مهاجمة النظام المصري، باتت مناقشتها محض إضاعة للوقت،
في جلسة جمعت اعلاميين بالسفير ناصر كنعاني “القائم بالأعمال الإيرانية في القاهرة خلال الفترة من 2018 حتي 2021″، بدا الرجل مندهشا ومجهدا بعد عامين في القاهرة لم يجد خلالهما تجاوباً من أية جهة في أي اتجاه، وكان يقول وهو يتصبب عرقاً “تعالوا نتحاور”، دون شروط أو سقوف مسبقة، لم يطلب وقتها أكثر من فتح باب الحوار، وغادر القاهرة بعدها بعام دون استجابة. .
التنافســ ربما العداءــ التقليدي بين المملكة السعودية وإيران، كان يتم تسويقه، باعتباره أحد الأسباب الرئيسية للخلاف المصري الإيراني، وأحيانا يقال إنها التهديدات الإيرانية للخليج،
التنافس وصل إلى نقطة التقاء، وربما اعتراف متبادل بعدم إمكانية حذف الطرف الآخر من المعادلة، والتطبيع بينهما يسير ببطء وثبات.
عندما وقعت طهران والرياض اتفاق استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، علقت الرئاسة المصرية: “تُقدّر هذه الخطوة الهامة، وتُثمّن التوجه الذي انتهجته السعودية في هذا الصدد”.
لكنها أعربت في الوقت ذاته، عن تطلع القاهرة، إلى أن “يكون لهذا التطور مردودًا إيجابيًا إزاء سياسات إيران الإقليمية والدولية”
ومع اشتعال الوضع في غزة، وتداعيات العدوان على باب المندب، بات الملف أكثر أهمية، حيث إيران هي الداعم الرئيس لجماعات المقاومة في غزة” حماس والجهاد” ولبنان “حزب الله” واليمن “أنصار الله”، بينما تلعب القاهرة الدور الأهم في الوساطة مع فصائل المقاومة والغرب بما فيه أمريكا وإسرائيل.
العودة للتاريخ وتقلبات مسار العلاقة بين البلدين من مصاهرة ملكية بين العائلتين الحاكمتين في العهد الملكي، ثم عداوة مبطنة في فترة التحرر الوطني، وصولا للقطيعة التامة، ودعم مصر عبد الناصر لثورة الخوميني، ثم الانقلاب العكسي في عهد السادات الذي استقبل الشاه بعد طرده من بلاده، وانقلاب حليفه الأمريكي عليه، ثم السكون البارد بامتداد عهد مبارك، والإشارات الإيجابية التي لم تكتمل في مرحلة الإخوان.
القراءة التاريخية لا تجيب عن سؤال التحفظ المصري المستمر، الرافض حتى لمساوة إيران بتركيا وإسرائيل اللذان جمعتهما علاقات دبلوماسية بالقاهرة رغم سوابق العداء ولواحقه.
يرى باحثون ضرورة استبدال المقاربة المصرية للملف بأخرى أكثر انفتاحاً، باعتبار الثلاثي “مصر وتركيا وإيران” يمثلون مراكز الثقل الإقليمي، وضمانته للعبور إلى مشهد متزن.
الكاتب والباحث إلهامي المليجي اعتبر، أن ” أنَّ الجغرافيا والتاريخ يحتّمان علينا إقامة علاقات حقيقية لا مناورات فيها”
لكن قراءة أكثر واقعية يمكن أن تقودنا، إلى أن الجغرافيا والتاريخ، وحتى المصالح قريبة ومتوسطة المدى، لن تزحزح صانع القرار المصري عن موقفه المتقنع بمخاوف من “الدور والأذرع” الإيرانية وصولا الي الجمود المستمر، منذ أكثر من أربعين عاماً، لأنه حتى التعامل البرجماتي مع النفوذ الإيراني، يقتضي أولاً التخلي عن قناعة الـ “99 % من أوراق اللعبة في يد أمريكا” وكذا التسامح مع الزحف السعودي على الدور المصري، وهما القاعدتان اللذان أرساهما السادات في السياسة الخارجية المصرية، واستمرا بعده رغم ثبوت فشلهما في أكثر من محك.
مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق د.عبد الله الأشعل يرى ببساطة ووضوح، أن انفتاح مصر على إيران سيسهم في ” طفرة سياحية قد تتجاوز 10 ملايين سائح إيراني سنوياً، يتطلعون لزيارة مراقد آل البيت، إضافة إلى تنامي التبادل التجاري بين البلدين بشكل، ستكون له فوائد على الاقتصاد المصري المتداعى”.
ورغم ثقته في هذه المكاسب يشاركنا السفير الأشعل فرضية أن التقارب المنتظر والمفيد لن يحدث قريباً، وهو ما يرجعه إلى “تصاعد النفوذ الأمريكي على صناع القرار في مصر، بينما إيران لن تقدم تنازلات على هذا الصعيد”.
لا يمكن حدوث تقارب حقيقي، أو تقارب مصالح، أو حتى حوار بناء بين القاهرة وطهران، إلا من أرضية أن مصر قوة إقليمية لعبت أدوارا خارج جغرافيتها، ومنها دورها في دعم الثورة الإيرانية، ودعم اليمن في مواجهة السعودية، ودعم منظمة التحرير الفلسطينية، وتأسيس حركة الجهاد الإسلامي، قبل أن تتلقفها إيران بالدعم والمساندة،
وحتى اللحظة تبدو القاهرة قانعة بأدوار أقل من حجمها، منشغلة بواقعها الاقتصادي، وأزمة الديون الخارجية والداخلية، رغم أن “التقوقع الإقليمي” لم يساعد في حلحلة الأزمة على مدار نصف قرن، واتفاقية السلام والمعونة الأمريكية، ودعم الأشقاء في الخليج، كل هذا لم يحول مؤشرات الاقتصاد باتجاه الرفاه الموعود منذ السبعينات، بينما نجد إيران المحاصرة من الغرب، والتي تخصص جزءاً من مواردها لدعم حركات المقاومةــ يفضل البعض تسميتها أذرعاً إيرانيةــ رغم أنها تعاني اقتصاديا ، إلا أن حجم دينها الخارجي لا يجاوز ستة مليارات ونصف المليار تقريبا، مقابل ما يفوق 165 مليار دولار دينا خارجيا على مصر، وتتمتع إيران باكتفاء ذاتي في مجالات الكهرباء، والدواء وجزء كبير من التسليح،
ربما يكون التقارب المصري الإيراني خطوة سهلة بمعايير الدبلوماسية والحراك السياسي، لكنه صعبة كونه يعني إعادة التموضع الخياراتي بالنسبة للقاهرة، وربما تكون حرب غزة فرصة تاريخية استثنائية؛ لمراجعة الرهانات السياسية والاستراتيجية، وبعدها سيكون القرار أكثر يسرا، مما يظن الجميع .