هل المصريون- بالسليقة أو بالخبرة- مستعدون للتكيف التلقائي مع المظالم، يتقبلونها في صمت، ثم يتكيفون معها، ثم يرضون بها، ثم يتعودون عليها، ثم يصير التعايش مع الظلم طبعاً مستقراً، ومستمراً فيهم، ينتقل من جيل إلى جيل، ومن زمن إلى زمن؟ الجواب: بعض ذلك صحيح، وبعضه خطأ. المصريون مثل غيرهم من الشعوب، يتقبلون المظالم حين يُغلبون على أمرهم، وتنسد في وجوههم سبل المقاومة انسداداً كاملاً، وكافة شعوب الأرض- دون استثناء واحد- مرت بمثل هذه التجارب، فليست حصراً على المصريين وحدهم .

لكن على الجانب الآخر، لم يحدث في التاريخ، أن خلت حقبة من الزمن من كفاح المصريين، ضد المظالم. المصريون- بين شعوب الشرق الأوسط- هم الأكثر ثورية، والأسرع إلى رفض المظالم، عرفوا الطريق إلى الثورات الحديثة قبل كافة شعوب الإقليم، ولهم تراث مجيد في النضال ضد الظلم، سواء كان مصدره إمبراطوريات عاتية أو طغيان محلي. ولو توفر فريق من الباحثين الجادين على تأريخ المنافي، والسجون والمصادرات وكافة أشكال العقاب التي نالت أحرار المصريين على مر التاريخ، فسوف يتجلى لنا الجانب المغيب، وهو- في الوقت ذاته- الجانب المشرق من تاريخ المصريين، والذي يُراد له أن يُدفن، ويطوى حتى تسود أقاويل، أن المصريين مطايا سهلة الركوب لكل الظلمة الطغاة البغاة. الظلم في مصر ليس طبعاً للمصريين، ليس من الخصائص القومية للمصريين، إنما هو نابت، وناشئ عن موقع مصر في النظام الدولي، وبالتحديد نابع من لزوم مصر لكافة الإمبراطوريات التي هيمنت على الشرق الأوسط من الإمبراطورية الفارسية، حتى الإمبراطورية الأمريكية، وذلك منذ أن تداعت، ثم انهارت الإمبراطورية المصرية عند منتصف الألفية الأخيرة السابقة على ميلاد السيد المسيح عليه السلام، والقاعدة هي: إذا لم تكن مصر قاعدة، ومركزا لإمبراطورية تكون هي سيدتها؛ فسوف تكون تابعاً لإمبراطورية أجنبية  تبسط سلطانها عليها، وحتى مع بقاء مصر نقطة إشعاع متميزة داخل الإمبراطورية الغازية، فإن أمورها الكبرى تُحسم من خارجها.

وعندما تفقد مصر سلطانها الخارجي فهي- في اللحظة ذاتها- تفقد قرارها المحلي، لا يبقى فيها شأن محلي مستقل عن هيمنة المركز الإمبراطوري. لهذا اقترنت الدولة الحديثة من محمد علي باشا إلى يومنا هذا بأعلى منسوب للظلم، فاض على أرضها وخر كالسيل، ورخ كالمطر فوق رؤوس شعبها، لسبب بسيط: الدولة الحديثة تبدو- في ظاهرها- مستقلة، دولة وطنية قومية ذات سيادة، لكنها- في المضمون- دولة ملحقة بالمنظومة الدولية التي صاغت بها أوروبا الشرق الأوسط الحديث مع الانحلال التدريجي- للإمبراطورية العثمانية التي كانت لها السيادة على الشرق الأوسط، باستثناء هوامش محدودة على سواحل الخليج، وبحر العرب في الشرق وهوامش مثلها على سواحل الأطلنطي في المغرب.

ديكتاتورية الشرق الأوسط الحديث ومظالمه ذات منشأ حديث، منشأ نابع من وظيفة الشرق الأوسط في بنية النظام الدولي الذي صاغته وشكلته أوروبا، الدولة في الشرق الأوسط الحديث- وأولها مصر من الباشا حتى يومنا هذا- هي جهاز تحكم آلي وسيط بين الغرب والشعب، جهاز ضبط وتحكم وسيطرة على الشعب، بما ينسجم مع الرؤية العامة التي يفرضها الغرب، لكيف يكون العالم كله بما في ذلك الشرق الأوسط، ولأجل أن يعمل جهاز السيطرة والضبط والربط والتحكم بكفاءة، يلزمه أن يتفهم، ثم يتسامح، ثم يتقبل الغرب فكرة الحاجة الماسة إلى الديكتاتوريات في الشرق الأوسط، ومعها الاستعداد لغض الطرف عن المظالم فيه، سواء مظالم الحكام ضد الشعوب، أو مذابح إسرائيل ضد الفلسطينيين، لا فرق بين هذه وتلك، كلها أدوات لازمة، ولا مفر منها، ولا بديل لها لوضع الشرق الأوسط تحت سيطرة الغرب، دون أن يرى أحد أصابع الغرب بصورة مباشرة، جهاز الدولة الشرق أوسطية يقوم بالمهمة، دون أن تتلوث أيادي الغرب. وبما أن الغرب قرر- وما زال يقرر ـ أن يزرع إسرائيل في قلب الشرق الأوسط، ثم قرر أن توجد لتستمر، ثم قرر أن يحمي استمرارها في مكانها إلى الأبد، فإن ذلك معناه أن سيطرة الغرب على مقاليد الأمور الكبرى في الشرق الأوسط سوف تستمر، وسوف يستمر معها كيف تكون الدولة الشرق أوسطية جهاز ضبط وربط وتحكم وسيطرة على شعوب الإقليم، بما يضمن تنفيذ السياسات العليا للغرب ومنها أمن وبقاء، بل وتفوق إسرائيل.

باختصار: المظالم في مصر ليست عن عيب خلقي في التكوين الإنساني للمصريين، لكنها مظالم ذات أسباب بنيوية كامنة في طبيعة النظام الدولي الذي تم إلحاقهم به، وإدماجهم فيه منذ غزوة نابليون، حتى هيمنة الأمريكان. وزاد الأمر حدةً مع زرع إسرائيل، فلم يعد مسموحاً للشعوب في الشرق الأوسط، أن تكون ذات قرار أو ذات إرادة أو ذات سيادة فعلية على مصيرها؛ لسبب بسيط : هذه الشعوب- في مجملها- ضد إسرائيل وضد انحياز الغرب لإسرائيل، فلو ملكت قرارها ومصيرها وكلمتها، فسوف يكون كل ذلك ضد إسرائيل. لهذا غير مسموح لشعوب الإقليم، أن تستمتع بالاستقلال الحقيقي أو الحرية الحقيقية أو العدل الحقيقي، بل غير مسموح لها، أن تعيش حياة طبيعية، أو تكون شريكاً في بناء الحضارة الإنسانية، عكس ذلك هو المطلوب: حشر شعوب الإقليم في نفق، أو قفص كبير بلا حراك ولا انطلاق، تدور حول نفسها، حتى تفقد حاسة الزمن؛ فتتقدم كافة شعوب الأرض، ويبقون هم يراوحون في مكانهم، وما يصبحون فيه يمسون فيه، وما كانوا يناقشونه في القرن التاسع عشر، ما زالوا يتجادلون فيه- دون تقدم ولا حسم- في القرن الحادي والعشرين.

……………………………………………..

منذ سقطت الإمبراطورية المصرية، لم تنقطع صلة مصر بالإمبراطوريات، مصر لا تملك اختيار العيش في معزل، العزلة اختيار غير ممكن بطبيعة الموقع، تختلف الإمبراطوريات، لكن الحقيقة قائمة، الفاطميون أسسوا إمبراطورية 969- 1171 م، أعاد تأسيسها الأيوبيون 1171- 1250 م، أعاد تأسيسها المماليك 1250- 1517م، ثم فككها العثمانيون في إطار إمبراطورية مركزها في أوروبا، فباتت مصر تُحكم من خارجها، كما كانت في صدر الإسلام، ثم الأمويين، ثم العباسيين، علماً أن الإمبراطورية المصرية في عهود الفاطميين والأيوبيين والمماليك هي حدود الإمبراطورية التي نحت حدودها، ورسم مداها تحتمس الثالث 1481- 1451م قبل الميلاد، وهي المجال الحيوي لمصر، كانت وما زالت. وهي الإمبراطورية التي أعاد تأسيسها محمد علي باشا في العقد الرابع من القرن التاسع عشر، وهي مجال الحركة الذي أدار فيه جمال عبد الناصر سياسته الخارجية، جمال عبد الناصر يشترك مع محمد علي باشا، والفاطميين والأيوبيين والمماليك في الوعي بحدود تحتمس الثالث، كما في الوعي بفكرة، إذا لم تكن مصر قائدة لإمبراطورية، تكون هي مركزها؛ فسوف تكون تابعة لإمبراطورية من خارجها، لهذا انتهى استقلال مصر الفعلي مع نهاية عبد الناصر ، لم يكن مسموحاً لمشروع محمد علي باشا، أن يكتمل، كذلك لم يكن مسموحاً لمشروع عبد الناصر أن ينجح، التخلص من الباشا كان ضرورة حياة لإمبراطورية القرن التاسع عشر أي بريطانيا، التخلص من جمال عبد الناصر كان ضرورة لإمبراطورية القرن العشرين أي أمريكا، مثلما التخلص من أي ممانعة؛ للتطبيع مع إسرائيل وإبادة أي مقاومة مسلحة لمظالمها، هو ضرورة حتمية لسيدة العالم المدللة أي إسرائيل.

كان القصد من تمرير محمد علي باشا ودعمه، أن يكون تابعاً للغرب، لكنه لم يكن كذلك بالفعل، كذلك كان توافق الاستعمارين القديم، والجديد أي الإنجليز والأمريكان على تمرير حركة الضباط الأحرار في 23 يوليو 1952م، أن يكونوا تابعين للغرب وبالتحديد، لا يمانعون في التبعية للإمبراطورية الأمريكية الصاعدة، في مقابل نيل الاستقلال عن الإمبراطورية البريطانية الآفلة، لكنهم، وبالتحديد جمال عبد الناصر، لم يكن تابعاً، كان مثل محمد علي باشا يناور، لكنه ينطوي في أعماقه على إرادة الاستقلال.

ثم بعد رحيل الرئيس عبد الناصر 1970م ذهبت مصر- من تلقاء نفسها- إلى الإمبراطورية مع اقتناع، أن أوراق الحسم في سياسات الشرق الأوسط، إنما هي في يد الإمبراطورية. شقت مصر الطريق علناً وصراحةً، ثم تبعها الشرق الأوسط بأكمله، ففيما يزيد قليلاً عن نصف قرن 1970- 2024 م، بات الإقليم كله في وئام وانسجام كامل، وتام مع الإمبراطورية باستثناء جيوب قليلة. بين إجهاض طموحات الباشا ثم عبد الناصر، بينهما تاريخ احتفظت فيه الإمبراطوريتان بالدور الحاسم: عزل اسماعيل 1879م، عزل عباس حلمي الثاني 1914م، عزل فاروق 1952م، عزل مبارك، ومعه عدد من الحكام العرب 2010- 2011م، تصفية المقاومة الفلسطينية المسلحة 2023- 2024 م.

هل هي مصادفة تاريخية، أن يكون الشرق الأوسط موطن شعوب عريقة مثقفة متنورة متحضرة، تعيش فيه الآن، كما هو موطن حضارات قديمة وحديثة هي مهد الحضارة الإنسانية، ورغم ذلك يقف خلواً من أي ديمقراطية حقيقية، ومن حرية حقيقية ومن دولة قانون حقيقية؟ هل هذا وضع طبيعي؟ هل شعوب الشرق الأوسط غير مؤهلة للديمقراطية؟ هل بات التكيف مع الظلم قدراً مقدوراً.

نستكمل في مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.