أسئلة الأمن القومي تستدعي بطبيعتها أكبر قدر ممكن من التدقيق.

لكل معنى حمولته الخطرة، ولكل حرف مخاطره الماثلة.

بالتعريف فإن الأمن القومي يشمل سلامة المجتمع، أن يعيش مطمئنا على حياته، حقوق مواطنيه ومستقبل أجياله، متحسبا للمخاطر المحدقة عاملا على درئها.

عند الإعلان عن صفقة “رأس الحكمة”، تبدت مفارقة فادحة بين ضرورات إنقاذ اقتصاد عليل على حافة الإفلاس، ومخاوف مشروعة، من أن تنطوي على مخاطر جمة تضرب في أبجديات الأمن القومي.

كما تبدت مفارقة فادحة أخرى بين ملياراتها المعلنة، وخشية المواطنين، ألا تتحسن أسعار السلع الرئيسية، حتى تصبح الحياة اليومية أكثر احتمالا.

ردم الفجوات مسألة تفاصيل، أن يكون كل شيء معلنا وواضحا أمام الرأي العام.

وفق الالتزام الدستوري في المادة (32)، فإنه “لا يجوز التصرف في أملاك الدولة العامة، ويكون منح حق استغلال الموارد الطبيعية، أو التزام المرافق العامة بقانون، ولمدة لا تتجاوز ثلاثين عاما”.

التدقيق الدستوري لا يصح إغفاله، أو التغاضي عنه بذريعة أو أخرى.

نحن نتحدث، عن مساحة شاسعة أكثر من (170) مليون متر مربع على بعد (350) كيلو متر شمال غرب القاهرة، وتدخل في النطاق الجغرافي الحدودي.

لا يستبين فيما هو معلن، طبيعة الصفقة، تنازل بالبيع أم حق انتفاع لمدة محددة، وإذا ما كانت هناك قيود، ومحاذير تمنع اتساع وظائف المشروع عن طبيعته السياحية المفترضة إلى وظائف أخرى، تغُل يد الدولة وسيادتها على أراضيها.

المشروع- حسب رئيس الحكومة “مصطفى مدبولي”- شراكة وليس بيع أصول.

التدقيق ضروري، إذ أن ظاهر الصفقة لا يوحي، بأن هناك شراكة حقيقية، وأن بيعا قد جرى.

الأخطر أنه لا يستبين في الصفقة نطاقها الجغرافي المستهدف، حيث تردد في بعض التغطيات الإعلامية، إنها قد تمتد إلى قرب الحدود!

قيل رسميا، إن هناك مشروعا لتطوير إقليم مطروح بطول نحو (500) كيلو متر من العلمين إلى السلوم.

إننا أمام مشروع محافظة حدودية، تخضع لحسابات ومصالح شركة استثمارية، لا مجرد صفقة تجارية، تضخ (35) مليار دولار في شرايين الاقتصاد المصري على مدى شهرين ومليارات أخرى من عوائده.

لا توجد أية إجابة حتى الآن على سؤال بالغ الحساسية: ما مدى سيطرة الدولة في تلك المنطقة الحساسة بقرب حدودها الغربية، التي شهدت بأعوام قريبة سابقة عمليات تمرير سلاح ومقاتلين، قبل أن تهدأ إلى حد كبير بعد دفع أثمان سياسية وإنسانية باهظة.

ما الحقيقة بالضبط؟!

ثم ما حقيقة ما تردد منسوبا لبعض المسئولين، من أن هناك صفقة أخرى لشراكة مماثلة مع دولة خليجية ثانية (السعودية) في “رأس جميلة” بشرم الشيخ، التي تبلغ مساحتها (160) ألف متر مربع.

بحكم موقعها على مرمى النظر بين جزيرتي “تيران” و”صنافير”، حيث تتشابك وتتصادم المصالح والاستراتيجيات، فإن الصفقة المنتظرة قد تكون كارثية.

إن أي إخلال بالسيطرة المصرية على هذه البقعة الاستراتيجية يفضي بالضرورة إلى عواقب وخيمة، إذا ما نشب صراع مسلح مع إسرائيل في مستقبل أو آخر.

في حالتي “رأس الحكمة”، و”رأس جميلة”، يُطرح سؤال، إذا ما كانت هناك إجراءات تضمن سلامة استخدام المطارات المزمع إنشائها وفق القوانين المصرية، وبإشراف كامل من سلطاتها، أم أن هذه مسألة سوف تترك لأصحاب المشروع؟!

في سنوات الرئيس الأسبق “حسني مبارك”، أنشئت (4) مطارات خاصة على الأقل مملوكة لرجال أعمال مقربين.

تردد وقتها في الكواليس السياسية، أنها قد تستخدم لهروب الشخصيات النافذة بما تقدر على حمله من ثروات، إذا ما اضطرتها طوارئ الحوادث، لكن في لحظة ثورة “يناير”، أحكم الجيش سيطرته عليها، ولم يحدث هروب كبير.

الملكية- هذه المرة- لدول لا أفراد، وقد يضع ذلك قيدا على أعمال الشرطة في ضمان سلامة إجراءات دخول ومغادرة البلاد.

المخاوف لا يصح تجهيلها.

وفق القواعد، المتعارف عليها دوليا، لا يصح المس بالأصول ولا بالموارد السيادية مثل قناة السويس، باعتبارها أصلا سياديا.

التدقيق الدستوري والقانوني ضروري، وحاسم لإضفاء شرعية على الصفقة، أو أنها تصبح باطلة.

السؤال هنا: هل عرضت على القضاء الإداري؛ للتأكد من سلامتها القانونية، ماذا كان رأيه؟ وفيم تحفظ؟ وما أسبابه في ذلك التحفظ؟

إذا لم تكن قد عُرضت نصوص الصفقة على القضاء الإداري، وهذا احتمال مرجح تماما، خشية أن يتكرر سيناريو مقارب، لما جرى في قضية “تيران” و”صنافير”.

التدقيق القانوني اللازم في مثل هذه الملفات بالغة الحساسية والخطورة، لا يصح إغفاله أو تجهيله.

هذه مسألة لا نقاش فيها.

تغييب المعلومات والتفاصيل الضرورية يفضي إلى إطلاق الكلام على عواهنه.

هذا آخر ما تحتاجه مصر.

الحقائق المبتورة لا توفر ثقة، تحتاجها البلد؛ لتجاوز أزماته الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية على كافة المحاور الحدودية، جنوبا حيث السودان ممزقا وأزمة السد الإثيوبي تتفاقم، وشرقا حيث الحرب على غزة تستنفر أخطر السيناريوهات، وغربا حيث مشروع رأس الحكمة بأسئلته الملغمة بالقرب من الحدود الليبية.

فوق ذلك كله: الحرب في البحر الأحمر والتدخل الأمريكي بالنيابة عن إسرائيل لحمايتها.

وقد أفضت تلك الحرب إلى تأثير سلبي على دخل قناة السويس.

كان ذلك من أسباب تفاقم الأزمة الاقتصادية.

كان يمكن تحمل آثارها السلبية، لو أن البنية الاقتصادية كفؤة.

الأزمات الدولية كجائحة “كوفيد 19″، والحرب الأوكرانية، أربكت بدورها الاقتصاد المصري، شأن اقتصادات عديدة في العالم، لكنها لم تكن السبب الجوهري لأزمته التي كادت، أن تصل إلى حافة الإفلاس وفق التقارير الدولية المتواترة.

أسوأ ما جرى في مصر خلال الشهور الأخيرة، أن أحدا لم يكن مستعدا لتحمل مسئولية الأزمة، التي تكمن بالضبط في السياسات والأولويات!

هذا ما يدركه العالم كله، دون تحليق في فراغ الذرائع المتخيلة.

قبل فترة وجيزة، بدا تقرير مجلة “الإيكونوميست” البريطانية الاقتصادية بالغة التأثير والنفوذ، أقرب إلى رسالة تحذير من عواقب انهيار الاقتصاد المصري.

انطوى التحذير على نوع المخاوف التي تنتاب مراكز القرار في الغرب.

يبدو الآن ذلك التقرير كاشفا للدوافع التي أحاطت بصفقة “رأس الحكمة”، وما قد يتبعها من صفقات مماثلة كـ “رأس جميلة” ورفع الحواجز بنفس الوقت أمام الحصول على قرض صندوق النقد الدولي، الذي قد يرتفع إلى (12) مليار دولار.

في تقريرها، أكدت “الإيكونوميست” على ضرورة إنقاذ الاقتصاد، حتى لا تسقط مصر، انتقدت النظام الحالي بغلظة، لكنها حذرت بالوقت نفسه، من أن تفضي الأزمة إلى أوضاع اضطراب غير محتملة في المنطقة كلها بحكم الثقل السكاني، والوزن الجيوسياسي لأكبر البلدان العربية، وأدوارها المطلوبة في الصراع العربي الإسرائيلي.

لا يصعب استنتاج، أن هناك دورا أمريكيا فاعلا ومؤثرا في خلفيات المشهد؛ لأسباب استراتيجية، تتعلق في المقام الأول بالصراع العربي الإسرائيلي والأدوار التي تلعب فيه.

لا شيء مجانيا في السياسة والاقتصاد.

هذا بذاته داع للبحث في التفاصيل، عما قد يُدفع من أثمان وتكاليف.

إنه السبب الرئيسي لـ “دفعة الإنقاذ”، التي وصفت بـ “أكبر صفقة استثمار مباشر في تاريخ مصر”.

الاستثمارات المتوقعة تصل إلى (150) مليار دولار خلال مدة التنفيذ، دون أن يكون واضحا: كيف؟ ولا ما المدة المحددة؟

أسوأ مقاربة ممكنة للصفقة النظر إليها على غير طبيعتها بادعاء، أن هناك رؤية استراتيجية أثبتت فاعليتها، وبالتالي فهناك رؤية لا أزمة.

إذا ما نُظر إلى صفقة “رأس الحكمة” إنها تأكيد على سلامة السياسات والأولويات الحالية، وأن الاقتصاد المصري ما زال قادرا على جذب الاستثمارات الأجنبية، فإنه خداع للنفس قبل الآخرين.

إذا لم نواجه أنفسنا بالحقائق، حقائق الأزمة وأسبابها، ونعمل على تصحيح جذري في بنية السياسات والأولويات، والبيئة العامة كلها، فإن مصر مرشحة؛ لإعادة إنتاج الأزمة بصورة أفدح، بعد أن تكون قد دفعت أثمانا باهظة من أمنها القومي ومستقبلها.