في متواليات درجات الهبوط المتلاحقة التي تضرب مصر منذ سنوات في مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية كشف تقرير منظمة العمل الدولية اﻷخير[1] حول اﻷجور، احتلال مصر المركز 21 في دول اﻷجور المتدنية.
التقرير يطرح تساؤلات حول تفسير اﻷجر العادل، وهل تحققه الزيادات التي أقرتها الحكومة برفع الحد اﻷدنى للأجور للعاملين بالدولة، والتي يستفيد منها أكثر من 20 مليون مواطن، بداية من أول إبريل، ضمن حزم إجراءات حماية اجتماعية، تبلغ تكلفتها 180مليار جنيها.
وما هي أسباب عدم المساواة، وأهم مظاهرها، وما آثارها على مختلف الفئات (العاملين بالدولة والقطاع الخاص، والنساء)؟ والأهم كيف تواجه هذه الفئات تلك اﻷزمة، وما هي أهم المقترحات لمعالجتها، حتى يمكن تحقيق الأجر العادل الذي يلبي اﻻحتياجات اﻷساسية للمواطنين؟
تعريف الأجر العادل
يفسر لنا الدكتور محمد حسن خليل منسق لجنة الدفاع عن الحق في الصحة، الحد الأدنى للأجر العادل، بأنه الذي يكفي الاحتياجات الأساسية للإنسان.
وهناك خطان للاحتياجات، هما خطا الفقر، الأول يخص الاحتياجات الغذائية، ويتحدد بأسعار سلة السلع الأساسية.
خط الفقر الثاني، هو فقر الحاجات الأساسية، ويتضمن إضافة إلى الطعام حق المسكن والملبس والرعاية الصحية (الأولية على الأقل)، والحق في التعليم الأساسي (حاليا حتى الثانوية العامة). وبالتالي لا يجب أن يقل الحد الأدنى للأجور عن حد الفقر الثاني، وفقا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
ويوضح خليل، أن زيادة الأجور في كل المستويات المرتبطة بالتضخم مختلفة عن نسبة الزيادة السنوية للأجور، فاﻷخيرة تتم وفقا لزيادة خبرة العامل، وبالتالي إنتاجيته كل سنة، فلابد من الجمع بين الزيادتين: زيادة وفق معدل التضخم، وزيادة سنوية “علاوة”.
ويكمل: “شرط الأمان الوظيفي هام، وهو عكس ما يطالب به صندوق النقد الدولي بجعل جميع الوظائف غير دائمة، وإنما مرتبطة بعقود محددة المدة، مما يلغي فكرة الأمان الوظيفي، ويعرض العامل لهزات وزلازل في كل مرة ينتهي فيها العقد”.
ويضيف أن هناك قاعدة مهمة يطاح بها في مصر، وهي أنه يجب ألا يقل المعاش عن الحد الأدنى للأجور، ومساويا لمقومات المعيشة في حينها، للحفاظ على الحد الأدنى لكرامة الموظف المحال للمعاش. وهي مشكلة متفاقمة في بلدنا بحكم السنين الطويلة من معدلات التضخم المرتفعة.
سوء التوزيع في الأجور
الباحث الاقتصادي إلهامي الميرغني، يوضح أن في مصر أكثر من 20 مليونا، يعملون بأجر منهم 5.5 ملايين في الحكومة والقطاع العام و 7 ملايين، يعملون في القطاع الخاص المنظم و 7 ملايين، يعملون في القطاع الخاص غير المنظم. ولدينا أيضا 1.4 مليون، يعملون لدى الأسرة، بدون أجر منهم 822 ألفا من النساء.
بخلاف العمل المنزلي الذي لا يتم حسابه ضمن الحسابات القومية.
ويقول: “لدينا تفاوت صارخ في الأجور بين قطاعات التشغيل المختلفة ففي القطاع الحكومي، يستأثر شاغلو وظائف الإدارة العليا بنسبة أكبر من الأجور، لا تترك للغالبية في قاعدة الهرم الا الفتات، ولذلك طالبنا أكثر من مرة، أن تحتوي موازنة الأجور على توزيع حسب الدرجات الوظيفية؛ لنعرف مدى توافر أو غياب العدالة.
تفاوت اﻷجور بين الهيئات العامة:
ويتابع: كما تتفاوت الأجور بين موظفي الهيئات العامة، فهناك هيئات عامة درجة أولى مثل البترول والمجتمعات العمرانية، وهيئات عامة مثل السكك الحديدية أو النقل العام، ورغم أنها جميعا هيئات عامة لدى الحكومة المصرية، إلا أن أجورهم تختلف. ونفس الوضع نجده في القطاع العام، فالأجور في شركة مصر للتأمين أو إنبي للبترول، أو البنك الأهلي غير الأجور في شركات الغزل والنسيج أو الصناعات الغذائية وهكذا.
لا توجد تعيينات في الحكومة، منذ عقود ولذلك عندما ترفع الدولة أجور أدنى الدرجات إلى 6 آلاف جنيه، فهو تغير شكلي؛ لأنه منذ سنوات لا يتم التعيين في المجموعات الحرفية والأمن والصيانة، والتي تم إيكالها لشركات خاصة، إضافة للتفاوت في الأجور بين موظفي الحكومة المركزية وموظفي المحليات.
القطاع الخاص ليس معنيا بالزيادات في اﻷجور:
يكمل الهامي: القطاع الخاص المنظم والخاضع للرقابة الذي يقدم الحجج والأعذار دائما؛ كي لا يلتزم بالحد الأدنى للأجور، وبالنظر إلى 7 ملايين، يعملون في القطاع الخاص غير المنظم أي 7 ملايين أسرة، تضم 28 مليون مصري أي حوالي ربع الشعب المصري، فحدث ولا حرج الأجور غير خاضعة لأي معايير، غير معايير صاحب العمل أو مقاول العمال وهذه كارثة كبرى.
وهنا يُثار سؤال هل تباع السلع بأسعار متفاوتة، لمن يتقاضى 6000 جنيه أو 3500 جنيه، أو أقل من ذلك، أم يشتري الجميع نفس السلع الأساسية الضرورية بنفس الأسعار، ما يعكس الغياب الكامل للعدالة.
لذلك فإن حزمة الإجراءات الأخيرة، لا يستفيد منها 14 مليونا، أو أكثر من العمال في القطاع الخاص الذين يضطرون لشراء السلع والخدمات بالأسعار الجديدة.
تفاوت الدخول وتدني وضع النساء:
لدينا تفاوت في الأجور تبعاً للنوع الاجتماعي، وهناك عشرات الدراسات التي أكدت ذلك، دون أي تحرك لمعالجة هذا الخلل.
ويفسر الباحث ذلك ببعض الحوادث التي شهدناها خلال آخر سنتين، وخاصة في القطاع الزراعي من انقلاب السيارات ببنات، وأطفال خلال رحلة عملهم بالحقول والمشروعات الزراعية، مقابل أجور زهيدة وعرايا من أي شكل للحماية الاجتماعية، وأي وسيلة من وسائل السلامة والصحة المهنية.
ولدينا العاملات في منطقة الاستثمار ببورسعيد، واللاتي تعرضن لعدة حوادث خلال انتقالهن أو عودتهن؛ لأنهن يسكن في محافظات أخرى.
يوضح لنا الباحث الاقتصادي آلية؛ لحل إشكالية اﻷجور غير العادلة من خلال تشريع قانون لوضع آليات؛ للتفتيش والرقابة، تضمن عدم التمييز في الأجور بين الرجال والنساء، خاصة وأن لدينا ملايين الأسر التي تعولها نساء، وتعاني من ظلم مزدوج.
ويحذر الباحث أخيرا، من أن حزمة الإصلاحات الأخيرة ستؤدي للمزيد من التضخم، وستضيع فائدتها أمام موجات الغلاء المتلاحق في أسعار السلع الأساسية.
ويشدد على أن العدالة في توزيع الأجور، وسد الفجوات في الأجور بين القطاعات المختلفة، بل وداخل نفس القطاعات ضرورة؛ لاستمرار الحياة، وليس فقط لتحقيق العدالة الاجتماعية.
هناك تغييرات جيدة ومتلاحقة، فيما يخص زيادة الحد اﻷدنى للأجور في السنوات اﻷخيرة، وبالتحديد منذ 2013، بعد توقف المجلس اﻷعلى عن تحديث اﻷجور، منذ عام 1984، بالمخالفة للقانون كما أشار الباحث الاقتصادي وائل جمال في تعليقه. ورغم أن هذه التحديثات تتماشى مع نسبة معدل التضخم الرسمي لتلك الفترة، لكن لا تزال هناك بعض العيوب، مؤكدا أنها ﻻ تنطبق على القطاع الخاص، وجزء من العاملين بالدولة، يضم المدرسين بالحصة والعاملين بعقود مؤقتة.
وينبه الباحث إلى مدى سلامة مكون سلة الغذاء المرتبطة بزيادة اﻷجور، للطبقة الفقيرة في قاع سلم اﻷجور التي توجه كل مواردها إلى الغذاء، لذا تمثل نسبة التضخم المربوط عليها الزيادة غير مناسبة لهذه الطبقة، وﻻ تواجه الزيادة الكبيرة في أسعار الغذاء باﻵونة اﻷخيرة.
ويستطرد الباحث لافتاً إلى ضرورة وضع آليات؛ لتنفيذ الحد اﻷدنى من اﻷجر داخل القطاع الخاص، حيث رفع المجلس القومي للأجور الحد الأدنى للعاملين بالقطاع الخاص من 2700 إلى 3000 في يوليو 2023، ولكن لا تزال الفجوة واسعه مع أجور العاملين بالدولة.
كما يوضح أن نسبة الفقر داخل المجتمع تصل إلى 38.5 %، ومن المنتظر نزول ما يقرب من 60 % من المواطنين تحت خط الفقر؛ لعدم قدرتهم في المستقبل على الوفاء باحتياجاتهم اﻷساسية.
فجوات
وفقا لدراسة نشرتها المبادرة المصرية للحقوق الشخصية بعنوان “فجوات تنفيذ الحد الأدنى للأجر، تؤخره عن ملاحقة الأسعار” يجب على الفور إصدار قانون موحد بإعادة هيكلة أجور كل العاملين بأجر في مصر؛ لتتناسب زيادة أجورهم مع ارتفاعات الأسعار على الأقل، ووضع حد أدنى للأجور، يكفي احتياجات العاملين وأسرهم، مع مراجعته كل ستة أشهر في ظل الزيادة المستمرة في الأسعار.
كما يجب وضع آليات ملزمة؛ لتطبيق الحد الأدنى في القطاع الخاص، وإلزام أصحاب العمل غير الملتزمين، كل ما انتقصوه من أجور العمال، وتعويضهم بشكل مناسب عن الضرر؛ جراء تعرضهم، وأسرهم للفاقة؛ بسبب حرمانهم من جزء من أجورهم.
[1]صفحة 83 من تقرير منظمة العمل الدولية بعنوان “قيمة العمل الأساسي العمالة العالمية والتوقعات الاجتماعية 2023”.