“فَعَلِمَ يَسُوعُ أَفْكَارَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: كُلُّ مَمْلَكَةٍ مُنْقَسِمَةٍ عَلَى ذَاتِهَا تُخْرَبُ، وَكُلُّ مَدِينَةٍ أَوْ بَيْتٍ مُنْقَسِمٍ عَلَى ذَاتِهِ لاَ يَثْبُتُ.”* هكذا تخير السيد سيرجى لافروف وزير الخارجية الروسي، أن يبدأ حديثه في مواجهة الفصائل الفلسطينية التي اجتمعت في موسكو بنهاية الأسبوع الماضي، ثم عَقَبَ قائلًا، إن السيد المسيح، الذي وُلِد بفلسطين، مُكَرمٌ لدى المسلمين والمسيحيين على حدٍ سواء، وأن ما قاله يعكس أهمية، أن يتحد الفلسطينيون فيما بينهم مُشَدِدًا، على أن وحدة الفصائل الفلسطينية هي أمر لا يعتمد إلا على الفلسطينيين أنفسهم.

وعلى الرغم من أنني شخصيًا لا أفضل استخدام المُقدس في غير محله، إلا أن إشارة لافروف السياسية لنصٍ دينيٍ مُلِهمٍ من نبيٍ له في نفوس البشر جميعًا مكانة خاصة، قد صادفت موضعها في أتون المقتلة الدائرة بغزة. قال لافروف، إن بلاده كانت قد أيدت مرارًا ضرورة عقد مفاوضاتٍ مباشرة بين الفلسطينيين والدولة الصهيونية، إلا أن الذريعة التي كان يسوقها المعارضون لهذه المفاوضات، كانت مبنيةً على أساس غياب وحدة الصف الفلسطيني. كان لافرورف مُحِقا، فما زالت تلك الذريعة قائمة يرددها السفاح نتنياهو، وحلفاؤه المحليون، ومن يسير في ركبهم من القوى الدولية، وعلى رأسها الإدارة الأمريكية، وبعض الحكومات الأوروبية الضالعة، حتى الذقون في المقتلة التي دخلت شهرها السادس.

فجر الخميس 29 فبراير، وبينما كان المجتمعون في موسكو يستعدون للحوار، كانت الآليات العسكرية ترتكب أسوأ مذابح غزة 2023-2024، وأكثرها انحطاطًا على الإطلاق. لم تكتف الدولة الصهيونية بالمقتلة الدامية، ثم بحرب الجوع اللتين، لم تفلحا في القضاء على فلسطينيي غزة، بل قامت بفتح النار على من تجمع منهم بدوار النابُلسي؛ للحصول على الأغذية المُلقاة عليهم جوًا، ليرتقي 115 شهيدًا جديدًا بخلاف عشرات الجرحى إثر مذبحة الطحين، التي لم تترك لأي عاقِل مساحةً؛ لتقييم ما وصل إليه الإجرام الصهيوني من مستوى أخلاقي بالغ التدني، صار واضحًا لكل من ألقى السَمع، وهو شهيد.

ورغم أن تاريخ الدولة الصهيونية، منذ النشأة، يشير دومًا إلى عدم اكتراث أركانها بردود الفعل العربية والدولية على جرائمها، إلا أن ارتكابهم لهذه الجريمة في هذا الوقت على وجه التحديد، ربما يدفع في اتجاهات مُغايرة، قد تتطور إلى حلحلةٍ للأمور بشكل غير مُعتاد، إن أُحسِن البناء على ما تغير من عوامل بدفعٍ من ظروف موضوعية، تتبدل ببطء شديد. فمن ناحية، قامت الإدارة الأمريكية، بعد تاريخ مذبحة الطحين مباشرة، بتحرك لم تعهده منذ بدء انخراطها في صراعات المنطقة، إذ ألقَت طائراتها الحربية جَوًا، شحنات غذائية ودوائية على أهل غزة، فيما يُعَد استثناءً من تحركاتها المشابهة في سورية والعراق، حين قامت بإلقاء شحنات مثيلة على حلفائها، حتى تمكنهم من الصمود أمام القوى المناوئة لها، أما هذه المرة فقد انعكس الأمر تمامًا، خصوصًا بعدما تغيرت سياسة وزارة الخارجية الأمريكية بالانخراط في التفاوض، وعدم تركه للقوى المتصارعة، وتقديمها لأفكار بشأن تأسيس دولة فلسطينية، ما زال الخلاف حول شروط تكوينها وحدود سيادتها قائمًا.

من ناحيةٍ أخرى، كانت تسريباتٍ عن مؤشرات النجاح المبدئي لحوار الفصائل بموسكو تتوالى مُبَشِرةً، إلى أن أتى البيان الختامي الذي أكدت فيه الفصائل على توافقها على المهمات المُلحة أمام الشعب الفلسطيني، كما أكدت كذلك على وحدة العمل من أجل تحقيق تلك المهام. وعلى الرغم من أن البيان قد ائتلف من تسع نقاط هامة، تم التأكيد فيها على التصدي للعدوان، ورفض خطط التهجير، والعمل على فك الحصار، ورفض محاولات فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، والتصدي لانتهاكات الدولة الصهيونية، ضد المسجد الأقصى وحرية العبادة، خاصة في شهر رمضان، ودعم الأسيرات والأسرى الفلسطينيين، والتأكيد على حماية وكالة الغوث الدولية، ودورها الحيوي في رعاية اللاجئين الفلسطينيين، حتى تحقيق عودتهم لديارهم. رغم أهمية تلك النقاط، إلا أنها بطبيعة الحال قد جاءت مُتَوَقَعة، لكن ما ورد بديباجة البيان، كان هو الأمر الجدير بالنظر والتفحص، حيث حَمَل مفردات خطاب جديدة، وتعهدات استثنائية، تصدر للمرة الأولى منذ عقود: “تعبر الفصائل الفلسطينية المجتمعة في مدينة موسكو، عن شكرها وتقديرها للقيادة الروسية على استضافتها لاجتماعاتها، وعلى موقفها الداعم للقضية الفلسطينية، وتؤكد في ظل ما يتعرض له شعبنا من عدوان صهيوني إجرامي، على الروح الإيجابية البناءة التي سادت الاجتماع، واتفقت على أن اجتماعاتها ستستمر في جولات حوارية قادمة للوصول إلى وحدة وطنية شاملة، تضم القوى والفصائل الفلسطينية كافة في إطار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني”.

البيان يؤكد- إذن- بمنتهى الحسم وفي لغة شديدة الوضوح، لا تفتح للتأويلات أي باب، على ثلاثة تعهدات “للمستقبل”، كان كاتب هذه السطور واحدًا ممن دعوا بإلحاح إليها: أولاً) عدم الفصل العضوي والنفسي بين غزة والضفة الغربية، وثانيًا) الالتزام بوحدة وطنية شاملة، لا تقصي أحدًا، وثالثًا) أن تكون تلك الوحدة الفلسطينية في إطار منظمة التحرير. وأظن وليس كل الظن إثم، أنه على الرغم من الصعوبات العملية التي تكتنف تفعيل تلك التعهدات، خصوصًا من جانب حماس والجهاد والجبهة الشعبية- القيادة العامة، التي تأسست عقيدة كوادرها تاريخيًا، على رؤى بشأن المنظمة، تراوحت في خطابها بين النقد الناعم والإشارات الخشنة كالتخوين والعمالة، بما يلقي على قيادات الفصائل الثلاثة عبء ضخم في إقناع كوادرها بتغيير تلك العقيدة، إلا أن الخطر الداهم على جميع الفصائل قد فرض نفسه؛ لتحقيق حُلم الوحدة الوطنية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني باعتراف العالم أجمع.

هل نشهد انضواءً تاريخيًا لكل الفصائل الفلسطينية تحت لواء منظمة التحرير، وإعادة حوكمتها تحقيقًا للحُلم في إطار تفعيل الالتزام ببيان موسكو؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام المُقبلة.

*الإصحاح 12- 25 من إنجيل متى.