إنها بكل تأكيد قضية تحرر وطني، وقضية حقوقية بامتياز.
لكن القضية الفلسطينية أثقلت بحمولات دينية وقومية، وحضارية شديدة الوطأة، وبتحيزات مسبقة؛ بسبب هذه الحمولات من ناحية، وبسبب تداخلها المتشعب مع الصراعات السياسية والأيديولوجية، وصراعات المصالح في المنطقة العربية، وكذلك بسبب الصراعات الدولية، خاصة في حقبة الحرب الباردة.
ولكن أيضا، وبالرغم من ذلك، حازت القضية اعتراف المجتمع الدولي بها كقضية تحرر وطني، وذلك بإقرار الشرعية الدولية حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وإقامة دولته المستقلة، كما حازت القضية الفلسطينية اعتراف المجتمع الدولي بطبيعتها الحقوقية، من خلال الاعتراف بـ ”الحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني“، وإنشاء لجنة أممية دائمة للعمل على إحقاق تلك الحقوق، والمراجعة الدورية، وكذلك التقييم السنوي للجهود الدولية لهذا الغرض، و إبراز العقبات التي تعترض عمل اللجنة.
ومع ذلك، فإن ثمة شيء، كان ينقص قضيتنا الفلسطينية؛ لكي تحتل طبيعتها الحقوقية التحررية مكان الصدارة في منظور الرأي العام العالمي، وخاصة الرأي العام في الدول الغربية قاطبة، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية بطبيعة الحال، وذلك بالمقارنة مع القضايا الشبيهة في التاريخ القريب، والبعيد للعلاقات الدولية، أي بالمقارنة مثلا مع حق الأغلبية السوداء في جنوب إفريقيا في الكفاح، ضد نظام التفرقة العنصرية وإسقاطه، وهو الأمر الذي تحقق بمساندة رئيسية من الحكومات الغربية تحت ضغط الرأي العام هناك، أو بالمقارنة مثلا مع حق الأقلية الكاثوليكية في أيرلندا الشمالية في نصيب عادل من السلطة.
فإذا قيل، إن الأمريكيين السود شكلوا ظهيرا قويا داخل أمريكا نفسها لحقوق الأغلبية السوداء في جنوب إفريقيا، وأن الأمريكيين من أصل أيرلندي لعبوا دورا مماثلا في قضية ذويهم في الوطن الأم، فماذا عن تعاطف العالم كله مع الكفاح الفيتنامي المسلح، ضد العدوان الأمريكي، إلى حد خروج مظاهرات مليونية داخل الولايات المتحدة نفسها ضد هذا العدوان، حتى توقفت الحرب.
أكثر من ذلك، فإن التأييد أو التبني الأورو-أمريكي الشامل للمشروع الصهيوني، بدأ من منظور حقوقي، وإن كان منطويا على تناقض داخلي جوهري، تمثل في تأييد قيام دولة يهودية على حساب شعب آخر، اغتصبت أرضه، وأنكرت حقوقه السياسية والإنسانية، هو بالطبع الشعب الفلسطيني.
يعود تكييف المشروع الصهيوني كمشروع تحرري حقوقي إلى مجموعة من الملابسات، هيأت الرأي العام في الغرب؛ لتبني ذلك المشروع، ومن تلك الملابسات سياسات الاضطهاد لليهود والتمييز ضدهم.
مما يساعد على (بروزة ) ذلك التكييف الغربي للأهداف الصهيونية كمشروع تحرري حقوقي، أن المحطتين الكبريين لانطلاقه، كانتا تجسيدا صارخا للظلم والاضطهاد لليهود كيهود، المحطة الأولى التي أنتجت مشروع الدولة اليهودية، ثم وعد بلفور كانت هي قضية الضابط الفرنسي اليهودي دريفوس، الشهيرة في الأدبيات الصهيونية، حيث أدين هذا الضابط ظلما بالتجسس لحساب ألمانيا، لا لشيء إلا لأنه يهودي، مما جلب التعاطف نحو اليهود، ومما قضى على الحل الاندماجي للمسألة اليهودية في أوروبا، أما المحطة الثانية، والتي أنتجت الالتزام الأمريكي القاطع شعبا وحكومة بالمشروع الصهيوني، فكانت مأساة الهولوكوست النازية ليهود أوروبا.
الحديث السابق، هو فقط عن التعاطف الشعبي في الغرب مع الصهيونية، بحسبانها عندهم قضية حقوقية تحررية، ولا يمتد قطعا إلى المضمون الاستعماري الرأسمالي؛ لتأييد الحكومات والماليين هناك، لمشروع الدولة اليهودية.
بالعودة إلى القضية الفلسطينية، فهل يمكن تصديرها إلى كل مكان، وكل شخص في العالم بوصفها أولا وأخيرا، قضية تحرر وطني، وقضية حقوقية؟ بمعنى تخليصها من بقية الحمولات الثقيلة التي أشرنا اليها، والتي تخصم من رصيد التعاطف العالمي معها، وذلك قياسا على الأمثلة السابقة؟
في اعتقادي الراسخ، أننا أمام فرصة ثمينة؛ لتحقيق هذه الغاية النبيلة والمحقة، وذلك على خلفية الرفض الشعبي الإجماعي في كل العالم للحرب المجنونة التي تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطيني في غزة، منذ خمسة أشهر، والتي لا تلوح لها نهاية قريبة، بكل ما جرى ويجري فيها من فظائع، وإبادة جماعية وتجويع… إلخ.
فلأول مرة تخرج مظاهرات بالغة الضخامة ضد إسرائيل ومؤيديها، وبوتيرة مستمرة في العواصم والجامعات الأوروبية، وفي المدن والجامعات الأمريكية، وما كان حادث إحراق جندي الطيران الأمريكي، منذ أيام نفسه احتجاجا على سلوك إسرائيل، إلا مؤشراً على تغير كيفي في موقف الرأي العام الأمريكي من الإسرائيليين تأييدا للفلسطينيين.
ولا شك أن دعوى جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، ضد عمليات الإبادة الاسرائيلية الجماعية للشعب الفلسطيني، تقدم بدورها فرصة واعدة لإعلاء الطبيعة الحقوقية والتحررية (الإنسانية) للقضية الفلسطينية على أية تكييفات أخرى، بحيث يتوجب على كل إنسان ذي ضمير، أن يؤيدها دون تردد، بغض النظر عن الدين أو القومية أو اللون… إلخ.
لقد وفرت هذه الدعوى أيضا منبرا مهما وقويا لتداخلات ومرافعات شتى، انصبّت كلها على مظلومية الشعب الفلسطيني، وتجبر آلة الحرب الاسرائيلية، وتحللها من كل قوانين وأعراف الحروب، فضلا عن إبراز وإدانة التصريحات شديدة العنصرية، وبالغة التطرف لكبار المسئولين الإسرائيليين، فمن ذا الذي يقبل في أي مكان في العالم تشبيه الفلسطينيين بالبهائم؟ ومن ذا الذي يستسيغ المطالبة بضرب غزة بقنبلة نووية؟ وهل يوجد أحد في هذا العالم، يبرر المذابح الجماعية اليومية للمدنيين الفلسطينيين، بمن فيهم الرضع والأطفال والنساء وكبار السن طيلة خمسة أشهر؟ فضلا عن التجويع وهدم وتعطيل المستشفيات، في ظل حصار مطبق مفروض على غزة، منذ أكثر من خمسة عشر عاما.
إن هذه كلها أحداث ومظاهر ودلائل دامغة على الطبيعة الحقوقية التحررية للقضية الفلسطينية، وأسباب قوية لترسخ، وتوسع التأييد الشعبي العالمي للحق الفلسطيني، ومن واجبنا جميعا البناء على هذا الذي تحقق؛ لترتفع هذه القضية فوق التحيزات الأيديولوجية أو الدينية أو القومية، وتصبح فقط في نظر الدنيا كلها قضية حق تقرير ومصير وحقوق إنسان، لا قضية مسلمين ضد يهود، ولا عرب ضد صهاينة، ولا متخلفين ضد متقدمين، ولا مستبدين ضد ديمقراطيين!!! وذلك قياسا على ما ذكرنا من أمثلة جنوب إفريقيا وأيرلندا وفيتنام، علما بأن مظلمة الشعب الفلسطيني مستمرة، منذ أكثر من قرن الزمان، وهو ما لم يحدث لأي قضية تحرر وطني وحقوق إنسان لشعب كامل من قبل.