في  كتابته لتاريخ العام الهجري 1209 الموافق 1794- 1795 ميلادي، بدأ الجبرتي بكلمته الشجاعة التي افتتح بها تواريخه للكثير من السنوات، كتب يقول: “لم يقع فيها شيء من الحوادث الخارجية، سوى جور الأمراء وتتابع مظالمهم”. ص 387 من الجزء الثاني من كتابه “عجائب الآثار في التراجم والأخبار”، الناشر مطبعة الأنوار المحمدية.

عبد الرحمن الجبرتي 1753- 1825م، هو ابن الطبقة العليا في مصر في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، طبقة جمعت بين العلم والمال والنفوذ الاجتماعي، طبقة تفردت بقدر كبير من الاستقلال عن عامة الناس، وعن السلطة الحاكمة، غير أنه استقلال لا يحمل معنى الانفصال أو الانعزال، سواء عن العوام أو الحكام، فالتواصل مع قمة البنيان الاجتماعي أي الحكام وقاعدته أي عوام الناس، كان قائماً وفعالاً، لكن لم يكن لدى السلطة ما تستطيع به تأميم هذه الطبقة العليا، ثم لم يكن لدى هذه الطبقة العليا نزوع للتخلي عن عموم الناس بالذات، وهم يواجهون ما وصفه الجبرتي بجور الأمراء وتتابع مظالمهم.

في ص 42 من كتابه “الغزوة الاستعمارية للعالم العربي وحركات المقاومة ” يقول دكتور عبد العظيم رمضان 1925- 2007 م “إن الارستقراطية المصرية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر كانت من تيارين: ارستقراطية عثمانية، ومملوكية في يدها مقاليد السلطة. ثم ارستقراطية مصرية، تتكون من كبار التجار والأشراف وعلماء الدين، وهذه الارستقراطية المصرية كانت محرومة من السلطة، ومن ثم كان هناك تناقض في المصالح بين الشريحتين من الارستقراطية، بلغ هذا التنناقض ذروته قبيل الحملة الفرنسية، حين انتزعت الارستقراطية المصرية الحجة الشرعية عام 1795م، التي يضعها البعض في مقام ” الماجنا كارتا”. ومعروف أن ” الماجنا كارتا ” هي وثيقة الحقوق والحريات التي انتزعتها الارستقراطية الإنجليزية من الملك جون 1166- 1216 م.  وهي أول وثيقة تقيد من سلطة الحاكم، وتقرر وتحمي الحقوق والحريات، وهي تمثل روح الدستور الانجليزي غير المكتوب، كما تمثل روح الديمقراطية الليبرالية الغربية حتى اليوم.

ما قال دكتور عبد العظيم رمضان، إنه ” ماجنا كارتا مصرية ” ذهب دكتور عماد أبو غازي في وصفه إلى ما هو أبعد، إلى ما أسماه ثورة يوليو 1795م، وقد قارن بينها وبين ثورة 23 يوليو 1952م. ثورة يوليو 1795م، جاءت ضد مظالم الارستقراطية العثمانية المملوكية، بعد سنوات قليلة من إخفاق مشروع الاستقلال الذي قاده، وتزعمه علي بك الكبير 1723- 1873م .

…………………………………………………………………………………

المهم في أحداث 1795م، سواء كانت حجة شرعية أو وثيقة حقوق أو ثورة يوليو الأولى، المهم هو ما تعنيه من الحيوية السياسية المبكرة للشعب المصري، حيوية سابقة على خرافة الدولة الحديثة من الباشا، حتى اليوم، حيوية كل هم الدولة الحديثة هي مصادرتها ودفنها ، الدولة الحديثة لا تعرف كيف تعيش مع شعب حيوي سياسياً ، الدولة الحديثة لا تعمل إلا في حال القضاء على حيوية الشعب، هكذا هي تفهم معنى الحداثة، الحداثة- في عرفها وفهمها- هي التسلط على الشعب، ثم قمعه، ثم قهره، ثم فقره، ثم تكميمه، ثم إسكاته، ثم ترهيبه، ثم نزع روحه ثم تحويله إلى كائنات، يتم استنزافها في تدبير الفطور، ثم في معركة الغداء، ثم في معركة العشاء ثم سعر كيلو بصل أو كيلو سكر أو علبة زيت.

الحداثة- في عرف الدولة الحديثة من الباشا، حتى اليوم- تعني أن يكون الشعب بلا إرادة ولا عزيمة ولا مبادرة ولا حرية ولا قدرة على التجمع، ولا التنظيم ولا الاعتراض ولا الاحتجاج. الحداثة- في عرف الدولة الحديثة من مطلع القرن التاسع عشر، حتى كتابة هذه السطور- هي منهج استعماري غايته خلق “رعية طيعة طائعة” على حد تعبير المؤرخ، وأستاذ العلوم السياسية البريطاني تيموثي ميتشيل، في ص 33 من مقدمة الطبعة العربية لكتابه “استعمار مصر”، مدارات للأبحاث والنشر.

نحن- الذين ولدنا وعشنا ونموت- تحت سقف ما يسمى الدولة الحديثة، نظن عن خطأ، أن الأصل في الإنسان المصري، أنه رعية طائعة طيعة سلبية عدمية فاقدة للحْول والطَول والهمة والإرادة، نحن نظن ذلك، لأننا لم نعرف، ولم نجرب، ولم نعش غير ذلك الخضوع بكل الأشكال والألوان، وتحت كل المسميات والمبررات، لا نتخيل أن هذا وضع طارئ مستجد علينا، ولا نتخيل أن هذا وضع عارض مفروض بالقهر، وليس عن طبع فينا، ولا جينات ولا جبلة في دمائنا، ولذلك لا نتخيل أن في الإمكان التحرر من هذا الوضع المشين المخجل المهين الذي تستذلنا، فيه ما يسمى الدولة الحديثة، وهي ليست أكثر من جهاز ضخم للتسلط، والقهر والفقر وامتصاص روح الحياة من أعماق الشعب تحت مبررات واهية من الحداثة حتى الوطنية والقومية حتى إذا استنزفت هذه المبررات، أصبح القمع هدفاً لذاته، أصبح القمع هو محتوى الدولة الحديثة، ومضمونها وشعرها وفسفتها ومبرر وجودها، لا تتخيل نفسها دولة محترمة، دون قدر كاف من القمع، تنزله بالشعب على مدار الساعة، فلم تعد الدولة الحديثة أكثر من مكيدة، ضد الشعب وعلى نفقة الشعب رغم أنف الشعب.

…………………………………………………………..

ما وصفه الدكتور عبد العظيم رمضان، بأنه ماجنا كارتا، وما وصفه الدكتور عماد أبوغازي، أنه ثورة يوليو الأولى 1795م، نجد شرحه في ص 387، وما بعدها من الجزء الثاني من تاريخ الجبرتي، فتحت عنوان “سنة تسع ومائتين وألف”، ما يوافق 1795 م، وبعد أن يذكر شهادته الحرة للتاريخ عن جور الأمراء وتتابع المظالم، أورد ما قد حدث في شهر صفر ثم شهر ربيع الأول، ثم شهر ربيع الآخر، حتى وصل إلى شهر ذي الحجة 1209هجري- يوليو 1795ميلادي، وهنا وقعت الحوادث الثورية:

1- وَفدَ أهالي بلبيس شرقية على شيخ الأزهر الشيخ عبد الله الشرقاوي، واشتكوا من المظالم، واستغاثوا بالشيخ.

2 – خاطب الشيخ حكام البلاد مراد بك، وإبراهيم بك في رفع المظالم، فلم يظفر منهما برد ولا جواب ولا اهتمام.

3 – اغتاظ الشيخ، وحضر إلى الأزهر، وجمع المشايخ، وقفلوا أبواب الجامع أي دخلوا في إضراب عام.

4 – الشيخ ومعه العلماء، أمروا الناس بإغلاق الأسواق، والحوانيت أي أعلنوا العصيان المدني الشامل.

5 – ثم ركبوا ثاني يوم- أي طافوا الشوارع في مظاهرة- واجتمع عليهم خلق كبير من العامة، وتبعوهم إلى بيت الشيخ السادات، وازدحم الناس.

6 – بلغ الاجتماع إبراهيم بك- ثاني اثنين يحكمان البلد شراكة بينهما- فأرسل إليهم رسولاً، يسألهم ماذا يريدون؟.

7 – قالوا: نريد العدل، ورفع الظلم والجور، وإقامة الشرع، وإبطال الحوادث- أي الضرائب المستجدة والاعتداء على الأملاك- والمكوسات التي ابتدعتموها وأحدثتموها.

8 – فقال: لا يمكن الإجابة- أي تنفيذ- إلى هذا كله، فإننا إن فعلنا ذلك ضاقت علينا المعايش والنفقات.

9 – فقالوا له: هذا ليس بعذر عند الله، ولا عند الناس، وما الباعث على الإكثار من النفقات، وشراء المماليك، والأمير يكون أميراً بالإعطاء لا بالأخذ.

10 – فقال: أذهب، لأبلغ، ثم أعود بجواب، ثم انصرف، لكنه لم يرجع بجواب.

11 – ركب المشايخ إلى الجامع الأزهر، واجتمع أهل الأطراف من العامة والرعية، وباتوا في الجامع الأزهر. (اعتصام مفتوح).

12 – أرسل إبراهيم بك- ثاني اثنين يحكمان البلاد شراكةً- إلى المشايخ، يعضدهم، ويقول لهم: أنا معكم، وهذه الأمور على غير خاطري، (أي لست شريكاً في هذه المظالم) وأرسل إلى مراد بك (شريكه في الحكم) يخيفه عاقبة ذلك.

13 – فبعث إليهم مراد بك (أي أرسل إلى المعتصمين في داخل الأزهر- يقول: أجيبكم إلى جميع، ما ذكرتموه إلا شيئين، ونبطل ما عدا ذلك من الحوادث والظلم. ثم طلب أربعة من المشايخ عينهم بأسمائهم، فذهبوا إلى بيته في الجيزة، فلاطفهم، والتمس منهم السعي في الصلح، وذلك وفق شروطه التي اقترحها.

14- اجتمع الأمراء مع العلماء، وأقر الأمراء، إنهم تابوا، ورجعوا، والتزموا بما شرطه العلماء عليهم، وانعقد الصلح على الشروط المتفق عليها.

15 – وكان القاضي حاضراً بالمجلس، فكتب حجة عليهم (على الأمراء) بذلك، وفرمن عليها الباشا (أي صدق عليها الوالي العثماني؛ فأصبحت في حكم الفرمان)، وختم عليها إبراهيم بك، وأرسلها إلى مراد بك فختم عليها.

16 – انجلت الفتنة، ورجع المشايخ، وحول كل واحد منهم، وأمامه، وخلفه، جملة عظيمة من عوام الناس، وهم يهتفون: حسبما رسم سادتنا العلماء، فإن جميع المظالم والحوادث والمكوس بطالة (أي باطلة أو لاغية) في مملكة الديار المصرية.

17 – فرح الناس، وظنوا صحته (أي صحة الاتفاق بين العلماء والأمراء)، وفُتحت الأسواق، وسكن الحال على ذلك نحو شهر.

18 – ثم عاد كل ما كان وزيادة، أي كل ما كان من مظالم، فنزل عقيب ذلك مراد بك إلى دمياط، وفرض عليها ضرائب عظيمة.

الملاحظة في كل ما سبق ليس انتهاء المظالم، فهي استمرت، وما زالت مستمرة، حتى كتابة هذه السطور، فجور الأمراء وظلم المماليك، لم يتوقف، لكن الملاحظة هي أن الدولة ما قبل الحديثة، لم تكن تملك سلطات الحبس، والاعتقال وقوانين الطوارئ وتلفيق الاتهامات وتشويه المتظاهرين في ترسانة الإعلام الحكومي، الدولة ما قبل الحديثة لم تكن لديها القدرات الجبارة؛ لتكسير عظام المعارضين، وتخدير وعي المؤيدين، الدولة ما قبل الحديثة كانت فقط قوة حكم وسلب ونهب، إما الدولة الحديثة فقد احتفظت بخصائص الدولة ما قبل الحديثة مع تغليفها بالوطنية المقدسة التي لا تمس، تقديس الحاكم اختصاص حصري بالدولة الحديثة من الباشا حتى اليوم.

…………………………………………

الدكتور رمضان وصفها بـ “بالماجنا كارتا” ونسي أن يقول، إنها لم تعمر أكثر من شهر.

والدكتور أبو غازي وصفها بثورة يوليو 1795، ونسي أن يذكر أن الثورة المضادة كانت أسرع وأنجح.

أما الجبرتي فقد قال- في تأريخه- للسنة التالية مباشرة “سنة عشرة ومائتين وألف 1210هجرية 1796م” قال:

“لم يقع بها شيء من الحوادث التي يُعنى بتقييدها، سوى مثل ما تقدم من جور الأمراء والمظالم”.

أي استمرار الجور والظلم عاماً وراء عام.

السؤال: لماذا استمرار الظلم عاماً وراء عام وقرناً وراء قرن وعهداً وراء عهد، حتى وصلنا إلى ظلم ذاتي منه فيه، ظلم حكام من آباء وأمهات مصريين أباً عن جد، فلا هم أجانب ولا غرباء ولا وافدون ولا مماليك ولا استعمار، لماذا استمرار الظلم، وتعاقبه علينا تعاقب الفصول الأربعة.

الجواب: في مقال الأسبوع المقبل بمشيئة الله.