لا أدوار مجانية في التاريخ.

هذه حقيقة لا يصح القفز فوقها بالادعاء.

الدور المصري فقد زخمه وإلهامه بعد خروجه من الصراع العربي الإسرائيلي باتفاقية سلام منفرد عام (1979).

وهذه حقيقة أخرى، لا يصح نسيانها بالتجهيل.

من وقت لآخر، ومن أزمة إلى أخرى، يطرح السؤال نفسه: أين مصر؟ أو متى تعود؟!

في خمسينيات القرن الماضي، أثناء حوار مع رئيس الوزراء الهندي “جواهر لال نهرو”، وصف الرئيس “جمال عبد الناصر” مصر بأنها: “دولة نامية”.

قاطعه “نهرو”: “كيف تقول ذلك يا سيادة الرئيس. مصر دولة كبرى لها حضورها في إقليمها وعالمها وكلمتها مسموعة ومؤثرة؟”.

رد “عبد الناصر” على الفور: “مصر دولة كبرى بعالمها العربي”.

إذا لم تكن في قلب قضايا العالم العربي يتقوّض دورها.

بالقدر ذاته، فإن العالم العربي يخسر معاركه المصيرية، إذا لم تكن مصر حاضرة في تفاعلاته.

بلا مصر، تتفاقم الأزمات إلى حدود الكوابيس، التي لم تكن تخطر على بال، وآخرها حرب الإبادة في غزة.

بدا العالم العربي كله، لا مصر وحدها، شبه عاجز عن لعب أي دور له صفة القدرة على التحدي والردع.

بغض النظر عن مستويات التجريف التي لحقت بالدور المصري، فإنه لا يمكن تجاهل مخزون قوته الكامنة، ولم يكن ممكنا لأي دولة عربية أخرى على مدى عقود، أن تملأ الفراغ الذي خلفه.

بتعبير نابليون بونابرت، فإن “مصر أهم بلد في العالم” من يسيطر عليها، يمسك بالمقادير الاستراتيجية في العالم القديم.

العبارة ذاتها، أعاد ترديدها اللورد كرومر في صدر مذكراته عن تجربته في حكم مصر مندوبا عن السلطات البريطانية بعد احتلالها عام (1882).

الإمبراطوريتان المتصارعتان- فرنسا وبريطانيا- كانت لهما النظرة ذاتها إلى الموقع الفريد الذي تمثله مصر- حيث تطل على البحرين الأبيض والأحمر، وتتصل عندها القارات القديمة: إفريقيا وآسيا وأوروبا.

لا ندري هل كان ذلك الموقع الفريد، الذي يصفه عالم الجغرافيا المصري الدكتور “جمال حمدان” بعبقرية المكان، نعمة أم نقمة؟!

أتاح لمصر، أن تنتج أول حضارة في التاريخ الإنساني على ضفاف النيل، وأن تلعب أهم الأدوار في محيطها بمحطات تاريخية عديدة، لكنه في الوقت نفسه عرضها لغزوات واحتلالات بلا حصر.

الإرث الحضاري قوة كامنة، لكنه وحده لا يكفي للتحرك نحو المستقبل.

إذا لم تكن رؤية المستقبل واضحة، فإنه بكاء على أطلال التاريخ.

القضية ليست أن تبرر، أو تنتقد سياسة أو أخرى.

الأهم أن تدرك أن مصر ليست في موضعها، وأن عدم نهوضها؛ لمواجهة تحدياتها الوجودية كأزمة “السد الأثيوبي”، والحرب على غزة، يهدد حاضرها ومستقبلها.

إذا الحقت هزيمة استراتيجية بالفلسطينيين، فإن هزيمة مماثلة سوف تلحق بمصر، وتتقوض أية أدوار منسوبة لها بالتاريخ، أو بالتمني.

هناك ثلاثة جياد إقليمية، تتصارع تقليديا على الحلبة الإقليمية، مصر وإيران وتركيا.

إنها الكتل السكانية والتاريخية الأكبر.

يوجد جوادان آخران على ذات الحلبة، السعودية وإسرائيل، أولهما- بقوته الاقتصادية ونفوذه المالي.. وثانيهما- طارئ ومصطنع معبرا عن القوة الأمريكية وحلفائها الغربيين.

تكاد إيران أن تكون قد حسمت الجولة الحالية بقدر انحيازها، ودعمها للمقاومة الفلسطينية وقدرتها على إدارة الأوراق التي لديها.

وكان التراجع لافتا بدرجات مختلفة في الأدوار المصرية والتركية والسعودية.

مصر وإيران كلاهما يحتاج إلى الآخر.

هذه حقيقة ماثلة.

إيران بحاجة لتوسيع دائرة مقبوليتها في الإقليم وهضم، ما أحرزته من مكاسب.. ومصر للتداخل الفعال في الملفات الملغمة كالأزمتين اليمنية والسورية، ومن أجل تخفيض مستويات التوتر في الإقليم المشتعل بالنيران.

السعودية وإيران لهما ذات التوجه في تخفيض التوتر بينهما.

إيران تطلب الانفتاح على محيطها المباشر في الخليج، والسعودية تطلب التهدئة مع الحوثيين عند خاصرتها الجنوبية؛ للتخلص من صداع الأزمة اليمنية على خططها المستقبلية.

عقد اتفاق مصالحة في بكين، لكن ظلت الشكوك والضغوط ماثلة في المكان.

بثقل التاريخ الدور المصري لازم بأية تسويات محتملة في اليمن وسوريا، كما لبنان والعراق.

بدأت مصر في اقتراب ما من الدبلوماسية الإيرانية، لكن الشوط ما زال بعيدا بضغوط أمريكية وإسرائيلية، وربما خليجية.

بحسابات اللحظة، تحاول تركيا المأزومة في اقتصادها إعادة صياغة توازناتها الدولية والإقليمية بانفتاح نسبي على مصر والخليج، الارتباط بـ “الناتو”، دون قطيعة مع روسيا وإيران، حتى تنجو من أي احتمالات تقسيم محتملة على خرائطها، إذا ما أنشئت دويلة كردية على حدودها.

تؤيد الصمود الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، دون أن تتخذ أية إجراءات عقابية ضد إسرائيل، كأن تخفض مستوى العلاقات الدبلوماسية، أو توقف التطبيع السياحي وبرامج التسليح المشتركة!

ما هو شعبي تعبير عن انتماء للقضية المركزية في الإقليم، وما هو رسمي تعبير آخر عن حيرة السياسات بعد انكسار مشروع “العثمانية الجديدة”، الذي رافق صعود “رجب طيب أردوغان” إلى السلطة.

تقدمت العلاقات المصرية التركية نصف خطوة، لكن دواعي الأزمة ما زالت ماثلة في ملفات عديدة أهمها الأزمة الليبية، والصراع على الغاز في شرق المتوسط.

في حسابات اللحظة الراهنة بكل مآسيها وتعقيداتها، تبدو إسرائيل الخاسر الأكبر، حيث تلقت هزيمة استراتيجية وأخلاقية، وخسرت الحرب على الصورة في العالم بأسره، كما لم يحدث من قبل.

حدث ذلك بنفس اللحظة التي كانت تنتظر فيها جوائز اقتصادية عربية مجانية رهانا على هرولة دول عديدة؛ لفتح قنوات حوار علنية وسرية معها لتطبيع العلاقات معها، دون أية انسحابات من الأراضي الفلسطينية المحتلة وفق القرارات الدولية!

لم يعد ممكنا- الآن- الحديث عن أي دور للجيش الإسرائيلي في حماية أمن النظم العربية، إذا كان لا يستطيع، أن يحمي أمنه الداخلي.

إذا كان هناك من خاسر مؤكد في الحرب على غزة، فإنها إسرائيل أولا وعاشرا.

إذا حصدت بعض المكاسب مثل، التطبيع مع السعودية، على ما تطمح فإنه تراجع عربي يضفي على المهزوم استراتيجيا، وأخلاقيا نصرا مجانيا.

برغم الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية للخليج، فإنها ليست كل العالم العربي.

تعود بعض أسباب الأزمات المتكررة بين مصر والسعودية إلى وصف التحالف بين البلدين العربيين بـ “الاستراتيجي”، من دون أن تكون هناك قاعدة تفاهمات حقيقية في ملفات الإقليم، فكل طرف يفترض أن يتصرف الآخر على الذي يتصوره.

قبل يومين من بدء عملية “عاصفة الحزم”، أخطرت مصر بموعدها، وأنها من بين الدول المشاركة فيها تحت اسم “التحالف العربي”، ولم يكن هناك تحالف يستحق هذا الاسم.

ثم استبعدت مصر تماما من أي جهود دبلوماسية لحلحلة الأزمة اليمنية.

توافدت إلى عاصمتها القاهرة الأطراف المتصارعة، لكنها لم تخرج بتلك الاتصالات إلى العلن الدبلوماسي، وسحب ذلك من رصيدها وقدرتها على المبادرة.

الأمر نفسه تكرر مع السوريين، حوارات غير معلنة توصلت- أحيانا – إلى تفاهمات رئيسية، لم تأخذ طريقها إلى النهاية.

العلاقة مع إيران من الملفات التي انعكست عليها ارتباكات الأداء الدبلوماسي.

سألت شخصية سعودية نافذة ذات حوار لم يكن للنشر: “لماذا تكبلون الدور المصري؟” فـ “مصر محام مؤتمن على الخليج ملتزم بأمنه في أي حديث محتمل مع إيران”.

كانت إجابته: “لماذا مصر؟”.. “نحن نستطيع أن نحاور مباشرة”.

مثل تلك الرؤية لا تؤسس لأي علاقات استراتيجية أو طبيعية أو على شيء من الندية، وهو وضع غير مقبول ولا محتمل، وقد أفضى إلى سلسلة من الأزمات المتتالية أخطرها، ما يتعلق بشروط مساعدة مصر على تجاوز أزمتها الاقتصادية.

انعكست الأزمات على المقاربة المصرية من الأزمة السورية.

في الخطوط العريضة، يتسم الموقف المصري بشيء من الوضوح.. كضرورة الحفاظ على وحدة التراب السوري، وجيشه والتسوية السياسية للأزمة، لكنه يفتقر إلى روح المبادرة وحرية التصرف.

بصراحة كاملة تحتاج مصر إلى إعادة هيكلة سياستها الخارجية، أن تدرك متى تبادر.. وأين أولوياتها؟.. ثم أن يستقر في يقينها، أن الضعف أمام الصلف الإسرائيلي يغري بالعدوان والاستهتار بالبلد كله.