وصل المبعوث الأمريكي الخاص إلى ليبيا، والتقى رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، وأعاد مناقشة الأوضاع السياسية في البلاد، وعلى رأسها إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وكرر نفس الكلام الذي سبق، وذكره المبعوث الأممي لليبيا، وكل المسئولين العرب والدوليين بضرورة مشاركة جميع الفاعلين، والأطراف المختلفة في العلمية السياسية والانتخابية، ودعم الجهود التي ترعاها بعثة الأمم المتحدة في توحيد المؤسسات الأمنية وإجراء الانتخابات.

وفي نفس التوقيت، تشهد أروقة مجلس الأمن مناقشة؛ لمسودة مقترح صاغه دبلوماسيون بريطانيون؛ لوقف إطلاق النار في السودان طوال شهر رمضان؛ تمهيدا لإيجاد مخرج سياسي للحرب الدائرة بين الجيش، والدعم السريع بدعوة كل الأطراف المتصارعة للجلوس على طاولة مفاوضات لحل الأزمة.

والحقيقة، أن المقاربة الغربية المستمرة في ليبيا، منذ بدأ أزمتها من أكثر من عقد من الزمان، تكررت في السودان، منذ نجاح ثورتها في 2018، في إسقاط حكم البشير.

والحقيقة، أنه طوال السنوات الماضية عرف كلا البلدين ليبيا والسودان مشروع تقاسم للسلطة، قبل بنائها بين أطراف متناقضة من خلال أدوار مختلفة لمبعوثين أمميين، كانت مهمتهم الرئيسية البحث عن توافق بين أطراف سياسية، وعسكرية قائم أيضا على فكرة اقتسام السلطة.

إن بلدا مثل ليبيا منذ اتفاق الصخيرات في ٢٠١٥، وحتى ملتقى الحوار الليبي في ٢٠٢١، وهو يدور في دائرة اتفاقات تقاسم السلطة التي لا تنفذ في أرض الواقع.

إن اختيار أعضاء ملتقى الحوار الليبي الدبيبة، كرئيس حكومة مع مجلس رئاسي، جاء عقب تفاهمات بين مختلف الأطراف؛ من أجل اختيار حكومة، تصنع التوافق وتضم الجميع، وكانت النتيجة أنه لم يتوافق عليها الجميع، وأصبحت أحد أطراف الانقسام.

واستمر المجتمع الدولي، يبحث في حلول سياسية، تراوحت بين اتفاقات لا تنفذ لتقاسم السلطة، أو محاولة إجراء انتخابات في نهاية كل عام لا تجري، بصرف النظر، عما إذا كانت ستنتج سلطة قادرة، على أن تبسط شرعيتها على كل الأراضي الليبية أم لا.

أما السودان، فمنذ نجاح ثورته والمجتمع الدولي حاضر في مساره السياسي، وقام ولو مضطرا بتأسيس نموذج قائم أيضا على اقتسام السلطة بين أطراف متناقضة، سواء كانت قوى سياسية مدنية أو عسكرية، وأنتج مرحلة هشة قائمة على الموائمات التي تعمق الخلافات في الواقع، وتخفيها في العلن، حتى انفجرت في وجه الجميع بالمواجهات الدموية بين الجيش والدعم السريع.

وقد يرى البعض، أن حالة السودان وليبيا لم يكن فيهما بديل إلا البحث في صيغة نظام تقاسم للسلطة كمخرج لانقسامات الواقع المعاش، فبلد مثل السودان كانت هناك قوى مختلفة صنعت الثورة، واعتبر كثيرون، أنها تمت بشراكة مدنية عسكرية؛ فأصبح الحل في مشروع انتقالي قائم على تقاسم السلطة بين هذه الأطراف، وكذلك ليبيا التي عرفت أيضا انقساما بين الشرق والغرب وخلافات ومواجهات عنيفة بين فصائل سياسية وعسكرية في الغرب، فكان لا بد أن تكون مشاريع الخروج من الأزمة قائمة على تقاسم السلطة.

والحقيقة، إن هذا الكلام نظريا صحيح، ولكنه يشترط وجود سلطة أصلا قادرة على إدارة مؤسسات دولة راسخة، أما في حال وجود سيولة في السلطة وهشاشة وضعف، يصل في بعض الأحيان للغياب في مؤسسات الدولة؛ فيصبح الهدف الأول، هو بناء السلطة، ثم البحث في اقتسامها.

ومع فشل مشاريع اقتسام السلطة في ليبيا والسودان وقبلهما تونس، أصبح مطلوب البحث عن نموذج أو إطار جديد، لا يعيد إنتاج نموذج تقاسم السلطة، إنما يجب أن يعطي ثقته لطرف أو مشروع سياسي، يكون محل توافق بين معظم الأطراف، ويحول المجتمع الدولي دفة جهوده من التركيز على خلق سلطة ضعيفة مفتتة للسيطرة عليها، أو خوفا من إعادة إنتاج النظام القديم والديكتاتورية، إلى بناء سلطة واحدة، توحد مؤسسات الدولة وتقويها، وتؤسس لنظام رئاسي في كل من السودان وليبيا، يضع عليه المجتمع الدولي ضغوطا حقيقية، حتى لا يعيد إنتاج نظامي البشير والقذافي.

لا يجب أن تستمر الضغوط الدولية لصالح بناء نظام فاشل، فلم ينجح نموذج “اقتسام السلطة” في السودان، وأنتج حربا بدلا من انتقال ديمقراطي، كما إنه فشل في أن يحدث أي توافق في الواقع، وليس على الورق داخل ليبيا، وهو فشل يدفع الكثيرين، للبحث إما عن المخلص المستبد، أو إلى الفوضى والاقتتال الأهلي.

كل الحوارات والمؤتمرات والمبعوثين الأمميين واجتماعات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وتصريحات زعماء الدول الكبرى؛ من أجل إحلال السلام في السودان، أو إجراء الانتخابات في ليبيا، يجب أن تضع إطارا جديدا مختلفا عن الذي حكم تحركات الجميع طوال الفترة الماضية، والبداية ستكون بالرهان، كما في كل الدنيا على بناء سلطة واحدة، ويكون من شروط وجودها إعطاء مساحات للمعارضة، وبناء دولة قانون وعدم العودة للاستبداد، وهي كلها أمور يمكن الوصول إليها بمراحل متدرجة من خلال سلطة واحدة، بدلا من القفز في الهواء عبر نموذج اقتسام السلطة بين الجميع  الذي لم ينتج لا استقرارا ولا ديمقراطية.

المطلوب أولا: بناء سلطة متوافق عليها قبل الصراع على اقتسامها، وهذا هو المدخل الوحيد القادر على إنقاذ ليبيا والسودان مما هما فيه.