هل شعرت بالخزي من قبل؟ على الأرجح أن الإجابة نعم، فمن منا لم يشعر بالخزي، مرة على الأقل؟ قد نشعر بالخزي؛ نتيجة فعل اقترفناه، أو ربما فعل لم نقترفه.

ولكن ماذا عن الدول.. هل سلوك الدول يشبه تصرفاتنا؟ الدول ليست هي الكيانات التي تخطر على البال عادة عند الحديث عن الخزي، لكن تياراً أكاديمياً يلفت النظر إلى العلاقة بين ممارسات الدول، والخزي على المستوى الدولي.

وتسليط الضوء على هذا الرابط، قد يساعدنا على فهم تحد حقوقي كبير، هو كيفية إرغام الدول على الالتزام بالمعايير الحقوقية، والتوقف عن انتهاك حقوق الإنسان.

جيوسياسة الخزي

أحد أبرز الدراسات الشاملة التي تبحث هذه العلاقة هو كتاب “جيوسياسة الخزي: عندما تنجح الضغوط الحقوقية، وعندما تأتي بنتائج عكسية” لروشيل تيرمان، وهي أستاذ مساعد بقسم العلوم السياسية بجامعة شيكاجو، لها اهتمام خاص بالدراسات الشرقية، و سبق أن نُشرت لها دراسة مترجمة بعنوان “ظاهرة التنوع في الثقافات الإسلامية”.

ترى تيرمان، أن الدول تلزم نظيراتها بمعايير حقوق الإنسان باستخدام آلية، تعتمد على خزي الدول المنتهكة لتلك الحقوق، وفضحها دوليا بشكل علني.

الخزي هنا- يشبه الخزي الاجتماعي الذي يجبر الفرد على الالتزام بالقواعد الاجتماعية– ويتضمن الإدانة والنقد العلني، لإجبار الدولة المنتهكة للحقوق على الالتزام بمعايير حقوق الإنسان.

تمثل آلية الخزي الأسلوب الأكثر شيوعا؛ للضغط من أجل احترام حقوق الإنسان، مقارنة بالآليات الأخرى مثل، العقوبات أو الحوافز الاقتصادية.

لكن تيرمان ترصد، أن استخدام الدول لتلك الآلية لا يخلو من حسابات المصالح، والخزي حتى لو لم يتعدَ حدود التنديد، أو التهديد اللفظي، قد تكون له عواقب وخيمة على العلاقات المشتركة.

ولهذا قد تتجنب دولة نقد انتهاكات حقوق إنسان في دولة أخرى؛ خوفا من تهديد المصالح الأمنية أو الاقتصادية المشتركة.

وتلاحظ تيرمان، أن أسلوب الخزي قد يأتي أحيانا بنتائج عكسية، حيث تزيد الدول من انتهاكاتها لحقوق الإنسان كرد فعل على التنديد الخارجي.

وتكمن مساهمة تيرمان، في تسليط الضوء على البعد العلاقاتي بين المخزي (الذي يمارس الخزي)، والهدف (الدولة التي تتعرض للخزي) في سياق حقوق الإنسان. كونه يرتبط بشكل أساسي بالعلاقات الجيوسياسية بين الطرفين، ولا يعكس دائما دوافع أخلاقية.

فقد تستخدم دولة النقد العلني لانتهاكات حقوق الإنسان كسلاح، ضد دولة منافسة، بينما تتغاضى عن إدانة الانتهاكات التي ترتكبها الدول الحليفة.

وتستنتج تيرمان من دراستها، أن الخزي من دولة عدوة أو منافسة قد يؤدي إلى نتائج عكسية، حيث يعتقد الرأي العام، أن أي نقد خارجي ضد دولتهم- بغض النظر عن مضمونه- هو سلاح سياسي بالضرورة، ورفضه يمثل شكل من أشكال المقاومة.

وهذا قد يدفع الحكومات إلى مضاعفة الانتهاكات؛ من أجل تعزيز شرعيتها أمام الرأي العام.

على الجانب الآخر، يصبح أسلوب الخزي أكثر فعالية، عندما يكون النقد صادرا من دولة حليفة، بسبب وجود علاقات استراتيجية مشتركة، يهتم الطرفان بالحفاظ عليها فضلا عن الثقة المتبادلة.

اعتمدت تيرمان، على بيانات إمبريقيةــ تحتكم للواقع المحسوس ـ على مستوى العالم؛ لتناقش حالتين بشكل خاص.

الأولى، هي رد فعل الولايات المتحدة على قتل السلطات السعودية للصحفي جمال خاشقجي، حيث وجدت إدارتا ترامب وبايدن نفسيهما أمام ضغوط دولية وداخلية، تدعوهما لمحاسبة السلطات السعودية.

ورغم قيام المسئولين في كلا الإدارتين بتعليق بعض الصفقات، والإدلاء بتصريحات ضد السعودية في بدايات الأزمة استجابة للضغط، لكن في النهاية عادت العلاقات مع الرياض، كما كانت – وربما أفضل- ولم توقع واشنطن أي عقوبات حقيقية على الرياض؛ بسبب خوفها من تهديد المصالح الاقتصادية والسياسية المشتركة مثل، النفط وتجارة السلاح.

أما الحالة الثانية، فهي حملة “أنقذوا سكينة” الحقوقية التي هدفت إلى إنقاذ امرأة، حكمت عليها السلطات الإيرانية بالرجم بتهمة الزنا، وقتها لم تزد طهران من انتهاكاتها للرد على النقد الخارجي، بل دافعت عن نفسها، بأن القضية تتعلق بشكل أساسي بتورط سكينة في قتل زوجها، وليس الزنا فقط.

وردت طهران بحملات تشهير، تصف الحملة الحقوقية، بأنها “غربية تشوه إيران”، واتهمت الحقوقيين الإيرانيين بالعمالة للغرب.

ولكن تدخل الرئيس البرازيلي بشكل مفاجئ، دفع إيران لوقف حكم الرجم، وربما ساهم في عدم تنفيذ الإعدام، وهذا يرجع لكون البرازيل دولة حليفة.

يركز كتاب تيرمان على العلاقات بين الدول، ولكن دراستها تشتبك أيضا مع منظمات المجتمع المدني، فالنقد الخارجي للانتهاكات الحقوقية، قد لا يؤدي بالضرورة إلى تمكين ودعم منظمات حقوق الإنسان المحلية.

أحيانا يضعف الخزي الدولي القادم من الخارج من شرعية الحقوقيين المحليين داخل مجتمعاتهم؛ بسبب اتهامهم بالتبعية للخارج.

وتوضح تيرمان، أهمية دور منظمات المجتمع المدني في الضغط على حكوماتهم؛ للتدخل وإدانة الانتهاك في دولة أخرى، فالضغط الحقوقي الداخلي، هو الذي حرك الحكومات الغربية والحكومة البرازيلية؛ للتدخل في قضية سكينة، ولكن التدخل البرازيلي كان أكثر فعالية.

الخزي.. له فوائده أيضا

تأتي أهمية كتاب تيرمان، من توضيحه حدود سياسة الفضح والخزي في إنفاذ معايير حقوق الإنسان، فمسألة حقوق الإنسان بالنسبة للدول ليست قضية أخلاقية خالصة، بل ترتبط بشكل وثيق بالعلاقات والمصالح الاقتصادية والسياسية بين الدول.

الكتاب ليس الدراسة الأولى التي تبحث تأثير الخزي على إنفاذ حقوق الإنسان، فهناك تيار أوسع يبحث تلك المسألة.

فقد توصلت إميلي إم هافنر بيرتون- في دراستها الإحصائية التي شملت 145 دولة حول تأثير إدانات الأمم المتحدة، ومنظمات المجتمع المدني على تصرفات الدول المنتهكة للحقوق، إلى انه ورغم وجود بعض حالات التحسن، لكن الكثير من الحكومات تستمر بانتهاكاتها وأحيانا تضاعفها.

دراسات أخرى أوضحت الآثار الإيجابية لخزي الدولة، حيث يساهم النقد الدولي في تغيير منظور الرأي العام بشأن انتهاكات حكوماتهم.

دراسة جاكوب أوسديران توضح، بأن الإدانات الدولية تحدث تغييرا إيجابيا في منظور الرأي العام، حيث يشعر الرأي العام، بأن انتهاكات حكوماتهم لحقوق الإنسان مخزية.

دراسة داستن تينجلي، ومايكل تومز- حول تأثير الخزي الدولي على التزام الدول باتفاق باريس للمناخ الحكومات- توضح أيضا الآثار الإيجابية للخزي الخارجي على تغيير منظور الراي العام، مما يساهم في دفع الحكومات للالتزام بوعودها البيئية.

دروس حقوقية مستخلصة

بعد عرض هذا النقاش، يمكن استخلاص عدة دروس حقوقية، تنعكس بشكل خاص على الاستراتيجية الحقوقية، وجهود المدافعين عن حقوق الإنسان.

أولا، يجب عدم الاستهانة بأهمية الإدانات الدولية والخارجية؛ بشأن انتهاكات حقوق الإنسان، فرغم نظرة تيرمان المتشائمة، والنقد الذي يوجه لآلية الخزي بشكل عام، تظل تلك الآلية هي الوسيلة المتاحة في الوقت الحالي.

ومع غياب آلية ملزمة، تجبر الدول على الالتزام بمعايير حقوق الإنسان، يصبح خزي الدول من الوسائل القليلة الممكنة التي تساهم في إرغام الدول على احترام حقوق الإنسان، وإن كانت بالطبع غير مؤثرة بالشكل الكافي.

ويظل التنديد والنقد الخارجي ذا آثار إيجابية في كثير من الأحيان، خاصة فيما يتعلق برفع وعي الرأي العام، مما يساهم في الضغط على الحكومات التي تنتهك الحقوق.

ورغم ذلك، يجب ألا يُعَول على الدول بشكل كبير أو مبالغ فيه، فيما يتعلق بحماية حقوق الإنسان، لأنه في نهاية المطاف، وللأسف، تنحي الدول والحكومات المبادئ الأخلاقية جانبا، مقابل تعظيم المصلحة الاقتصادية والسياسية.

إدراك العلاقة بين الخزي والمصلحة الجيوسياسية، يشكل عاملا هاما في سبيل تعزيز فعالية الاستراتيجيات الحقوقية.

وعلى الجهود والحملات الحقوقية، أن تدرس بحرص استقبال الرأي العام للقضية الحقوقية، وتوقع رد الفعل المحتمل من جانب الحكومة المنتهكة للحقوق على الانتقادات الدولية، إدراك هذا البعد يسلط الضوء على محورية استباق تصرفات الحكومة، وجذب الرأي العام للقضية.

كما أن المدافعين عن حقوق الإنسان، عليهم أن يضعوا في الاعتبار العلاقات السياسية والاقتصادية بين الدول في سياق استراتيجيتهم الحقوقية، من خلال تكثيف الجهود بشكل خاص لحشد الراي العام في الدول الحليفة، لإجبار تلك الحكومات الصديقة على إدانة الانتهاكات والضغط على حلفائهم.

هذا لا يعني بالطبع، التغافل عن الحشد داخل الدول المنافسة، خاصة إن كان لتلك الدول ثقل وقوة على الساحة الدولية.

وأخيرا يجب الانتباه أيضا، إلى أن الدول ليست الكيانات الوحيدة التي تقوم بالخزي في سياق انتهاكات حقوق الإنسان، فهناك كيانات دولية أخرى مثل، مؤسسات الأمم المتحدة ومنظمات المجتمع المدني المستقلة، وتأتي أهمية تلك الكيانات الدولية، وغير الحكومية في كونها، متجردة بشكل كبير من المصالح، على عكس الدول التي تحركها مصالحها بشكل كبير.