“كل ما حدث بشأن قرار التعويم، هو أمر يخالف بالكلية، ما اتفق عليه في الحوار الوطني”… بهذه الكلمات صرخ د. جودة عبد الخالق عضو مجلس أمناء الحوار الوطني يوم الأربعاء 6 مارس 2024، بعد أن استيقظت مصر على قرار تعويم الجنيه، حيث تم خفض قيمة العملة المصرية مقابل الدولار، وتم رفع أسعار الفائدة 6 نقاط مرة واحدة، ليصل إجمالي الرفع إلى 8 نقاط خلال الشهرين الماضيين، وكل ذلك خيب توقعات عديد الاقتصاديين المصريين الذين كان كل آمالهم، أن يستمع المسئولون المصريون لروشتة أخرى غير تلك التي حددها صندوق النقد الدولي.
الروشتة التى كان يطمح إليها عديد الخبراء الاقتصاديين، هي روشتة التنمية المستقلة، وهي كما يرون على خلاف كامل من روشتة التبعية للخارج التي تقوم على تأليه الدولار، باعتباره مصدرا للتعاملات الخارجية. ولأن التعويم يبرره أنصاره لكونه، يعالج حالة الاختلال في العلاقة بين الإنتاج والاستهلاك، فقد هدف المسئولون في مصر من التعويم إلى القضاء على السوق الموازية، فهو سيدعم الصادرات المصرية، لأن الخارج سيراها، أنها أرخص من أي بلد آخر، وسيقلل من الواردات التي سيرونها، أكثر غلاء من الإنتاج المحلي (إن وجد إنتاج ذا بال).
بالمقابل يعتبر كثيرون، أن الرهان على الدولار رهان خاسر، فالدروس التي تتخذ من تجربة التعويم الأول الذي قام به نظام حكم 30 يونيو، ثبت خسارته هو، وما تلاه من تعويمات، لأنه في كل مرة يركض دولار الدولة إلى الأمام في السوق الرسمية خطوة، يركض دولار الشارع أمامه في السوق الموازية خطوتين، ما يجعل السعر الواحد، هو إجراء قائم أول بضعة أسابيع من التعويم، بعدئذ ما يلبث أن يفترق السعران فتزيد الهوة بينهما بعد ذلك، فتخلق السوق الموازية بشكل آلي، ويجرم عوام الناس؛ بسبب حمل أي دولار أو المتاجرة به، بعد أن كان ذلك مصرحا به لهم عقب التعويم مباشرة.
واحد من أبرز التحذيرات التي قيلت خوفا من التعويم في الحالة المصرية، أنه إجراء سيؤدي إلى زيادة في أسعار السلع والخدمات، وهو أمر في حالة مصر التي أصبحت نسبة الفقر فيها- قبل التعويم مباشرة- تفوق الـ 35% من عدد السكان، يتسم بالخطورة الشديدة، ما يجعل هناك مخاطر اجتماعية وسياسية، ومن ثم أمنية على القرارات الاقتصادية التي تتخذ بهذا الشكل المبسط والفارغ أو الخاوي عن فكرة، ما بعد التعويم وتداعياته لدى المسئولين عنه. يكفي هنا الإشارة لما قاله د. سيد الصيفي عميد كلية التجارة بجامعة الإسكندرية، من أن زيادة الفائدة نقطة واحدة تعني زيادة الفوائد المدفوعة 80 مليار جنيه، وأنه بتحويل الدين الخارجي البالغ (دون فوائد عام 2024) 165مليار دولار إلى الجنيه، فإنه سيصبح حجمه 8 تريليونات جنيه، بعد أن كان مجرد 5 تريليونات جنيه، ما يرفع إجمالي الدين إلى 16,25 تريليون جنيه، ويجعل نسبة المديونية إلى الناتج المحلي المقدر بـ 10 تريليونات جنيه 162,5 %، وهي بذلك مرتفعة للغاية. ولأن خدمة الدين (الفوائد والقسط المسدد) قبل التعويم كانت 2,5 تريليوني جنيه، فهي تعني أن كل إيرادات مصر المقدرة بـ 2,1 تريليوني، أصبحت لخدمة الدين وأكثر.
لكن بعد أن سار التعويم أمرا واقعا يصبح السؤال… وماذا بعد حتى نحد من آثار تلك الواقعة؟
الأمر الأول، فتح المجال العام أمر مهم للغاية، لأنه من غير المعقول، وما هو لا يطاق، أن تكون هناك ضغوط اقتصادية واجتماعية، ولا يوجد متنفس للناس، بمعنى أن تستمر حالة الكبت والتعسف في حرية الرأي والتعبير. لذلك فإن ولوج مجلس النواب بتعديل قانون الإجراءات الجنائية في الوقت الحالي بالاكتفاء بتعديل مدد الحبس الاحتياطي، هو أمر ساذج وغير منطقي، لأنه من المهم أن يرتبط ذلك ليس فقط بتخفيض أكبر للمدد، عما هو مقترح، بل وأيضا بوقف الحجز على الأموال والمنع من السفر، وغيرها من أمور تنم عن بقاء كبت الحريات. يرتبط بذلك حرية الناس في التعبير عن آرائهم في مواقع التواصل الاجتماعي، وتحرير المواقع الإلكترونية من القيود، وعدم تقييد الإعلام من قبل مؤسسة بعينها (المتحدة).
الأمر الثاني، أن تعويم سعر الجنيه الذي أريد به إصلاح الأوضاع الاقتصادية وفق روشتة صندوق النقد الدولي، كان غرضه جذب الاستثمار الأجنبي، وهو أمر يعتقد أنه سيتم ببطء شديد رغم التعويم، لأن المستثمر الأجنبي سيتمهل للمزيد من التعويمات، حتى يبخس بالأصول المصرية إلى أقصى حد، ناهيك عن أن المستثمر الأجنبي يشك كثيرا في إيجابية الاستثمار في تقرير الدستور الحالي لدور رئيس الدولة في تعيين القضاة، وهو ما يغل يد المستثمر حال وجود خلاف بينه وبين الدولة المصرية. هذا الأمر علاجه بسيط، وهو أن تشجع الدولة الاستثمارات المحلية، وتدعم المنتجين المصريين، بحيث يعود أثر استثماراتهم على المصريين أنفسهم، كما أن اتخاذ عديد الإجراءات لاستقلال القضاء ممكن، أن تكون أيضا إجراء مرافق لذلك. أيضا فإن دعم المزارع المصري بدلا من دعم نظيره الأجنبي كل عام أمر مهم، ولنا هنا في تسعير القمح أبرز مثل على إمكانية تحقيق ذلك ابتداء من الموسم الزراعي الحالي.
الأمر الثالث، مواجهة الاحتكارات من قبل كبار التجار ورجال الأعمال، وذلك من خلال تعديل قانون حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية، فهذا القانون الذي عُدل عدة مرات، بحاجة إلى تغليظ شديد للعقوبة، بحيث تتناسب مع الجرم، هنا يشير د. جودة عبد الخالق إلى الحاجة، إلى أن تكون الغرامة المالية كبيرة جدا، ومدة السجن أكبر، حتى تردع المحتكر، وأن يكون– وهذا هو الأهم- هناك شق جنائي، بمعنى أن ترتبط العقوبة بالإخلال بالشرف والأمانة، ما يجعل المحتكر الذي يصدر بشأنه حكما، قد سلبت منه حقوقه السياسية والمدنية المختلفة، بما فيها الترشح للمناصب العامة وخلافه. إن كافة تلك الأمور من المهم أن تتواكب مع مواد القانون 8-10 والتي تجيز للدولة أن تعتبر سلعا محددة لوقت محدد سلع استراتيجية، بحيث تقدر أسعارها، فتضرب بيد من حديد على كل مُغال، بدلا من عشرات الأسعار الموجودة حاليا للسلعة الواحدة باختلاف البائع والمكان واليوم، وهو ما يتم في ظل وجود سلطة، رغم تغولها سياسيا وأمنيا، تقف أمام التاجر والمستهلك موقف المتفرج.
الأمر الرابع، هو أن يعدل قانون حماية المستهلك، بحيث يكون هذا الجهاز قادرا على مواجهة المحتكرين، وقادرا على إنصاف سريع للمستهلك. هنا من المهم أن تظهر الدولة، وإعلامها (المهيمن عليه كما ذُكر آنفا) بالمدافع عن المستهلك، بأن ترشده إلى حقوقه قبل البائع، بالبحث في صلاحية المنتج، وشهادات الضمان، وجودة المنتج، وكافة الأمور الخاصة بالمنشأ والوقاية من أعمال النصب والاحتيال المباشر والإلكتروني، وهذه كلها أمور يجب أن تترافق مع تعديل هذا القانون.
الأمر الخامس، وبالنسبة للواردات، من المهم للغاية أمران. أولهما سرعة الإفراج عن المخزون من السلع المستوردة في المواني المصرية. فالتعويم كان هو العقبة الرئيسة في عدم الإفراج عن تلك السلع، ومن ثم يصبح من المهم سرعة إدخال تلك الواردات إلى الأسواق حتى تهدأ الأسواق، ويتم كبح جماح المحتكرين. ثانيهما، أن يتم التراجع بشكل عاجل، وفوري عن استيراد السلع الكمالية، مهما كان هناك حاجة إليها، فالموبايلات وأغذية الحيوانات الأليفة والفوانيس والعطور وبعض الأطعمة والأجبان والمسليات والأزياء ولعب الأطفال، كلها يجب التوقف عنها. ونظرا إلى أن اتفاقات التجارة ربما تمنع بعض إجراءات حظر الاستيراد، فإن رسوم الإغراق قد تكون البديل المهم عن إجراءات المنع.
الأمر السادس، هناك مسألة ضغط الإنفاق الحكومي، وهو أمر بحت بشأنه أصوات الكثيرين، وبه يُغلق بند مهم للإنفاق، يتصل بكثرة مستشاري الوزارات المختلفة، وزيادة البعثات الدبلوماسية في الخارج، وزيادة أعضاء تلك البعثات الدبلوماسية من كافة الجهات التابعة لوزارات الخارجية، والدفاع والجهات الاقتصادية على اختلافها، وأيضا مواكب الوزارات والحراسات، والاحتفالات الماجنة، وتجهيز المكاتب وغيرها.
الأمر السابع، فيتصل بالجهاز الضريبي، والذي يجب أن تتماشى كافة خطواته مع طبيعة الممول ونشاطه. هنا من المهم أن نلفت الأنظار إلى أمر غاية في الأهمية (التقرير الاستراتيجي العربي الصادر عن مركز دراسات الأهرام 2023)، وهو أن هناك عديدا من الأنشطة والقطاعات لا تخضع للنظام الضريبي المصري، ويقع معظمها عند أصحاب الدخول الضخمة والثروات؛ بسبب ما يتمتع به هؤلاء من نفوذ سياسي واجتماعي، يمكنهم من مقاومة أية تعديلات تشريعية ضريبية. ولعل أبر الأمثلة على ذلك صخب الكثيرين عند الحديث كل مرة على ضرورة فرض ضرائب على المعاملات في البورصة، والأرباح الرأسمالية الناجمة عنها.
أخيرا وليس آخرا، فإن الحد من الفقر هو أحد أهم إجراءات الاستقرار وحفظ الأمن، ومن ثم فإن مواكبة التقشف يجب أن يعوضه حُزم أمان اجتماعي، أكثر مما هو قائم، حتى تستطيع الطبقة الدنيا مواجهة تداعيات التعويم من خلال الدعم، وغيرها من إجراءات الحماية الاجتماعية