“الأشياء الطيبة تأتي لهؤلاء الذين ينتظرون. لا يوجد مثال أفضل من ذلك”، هكذا تحدث وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، ليرد عليه رئيس الوزراء السويدي أولف كريسترسون بالقول “السويد تعود إلى الوطن. إلى حلف شمال الأطلنطي”. كان هذان التعليقان في وصف الحدث الضخم الذى جرى بنهاية الأسبوع الماضي، خير تعبير عن تطور الواقع الذي يَخُط بموجبه التاريخ اللئيم صفحاته.
لم تخرج السويد رسميًا، عن خطها الحيادي خلال قرنين من عمر الإنسانية تكثفت فيها الصراعات الدولية بشكل أكثر وضوحًا خلال المائة عام الأخيرة. في الحرب الكونية الأولى، لزمت السويد الحياد فلم تنحز لأي من المتحاربين، ولم يتغير الأمر في الحرب الثانية ولا في الحرب الباردة رغم وقوع السويد جغرافيًا على تخوم مُلتهبة في قلب المعمعة. كانت مخاطر التأثر بتلك الحروب تتزايد من حرب لأخرى، إلا أن تغييرًا رسميًا في الموقف الحيادي للسويد، لم يتحرك صوب الانحياز إلا منذ سنتين على وجه الضبط.
احتفظت السويد بمستوى اقتصادي متميز، سَمَح لها بتأكيد مركزها الحيادي، وإن استجابت لبعض مطالب الأطراف المتصارعة كما فعلت، أثناء الحرب الكونية الثانية، حيث امتنعت عن استقبال اليهود الألمان الفارين من الهولوكوست امتثالًا لرغبة من النازي. والاقتصاد السويدي يُشَكِل بالفعل نموذجًا يُحتذى، فهو اقتصاد مختلط يقوم على الإنتاج من أجل التصدير؛ بهدف تحقيق الرفاه بتأكيد وضمان رعاية المسنين والأطفال، وتقديم الخدمات الصحية والسكن اللائق والتعليم المتميز، والعمل المناسب للجميع بتمويلٍ من الضرائب، فنأت حكوماتها بنفسها عن الإنزلاق الفاعل في الصراعات، وتفرغت لتحقيق ذلك الهدف.
بعدما وضعت الحرب الكونية الثانية أوزارها، كانت المصانع والشركات السويدية، التي لم يصبها دمار الحرب، جاهزة للعمل بكامل طاقتها، فانتعشت التجارة وإنخفضت معدلات الفقر والبطالة إلى أدنى المستويات. كان للعالِم الاقتصادي السويدي الأشهر “جونار ميردال” الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1974، والذي كان وزيرًا للتجارة بالحكومة السويدية بعد الحرب الكونية الثانية ثم شغل منصب الأمين التنفيذي للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأوروبا بنهاية الخمسينات، فضل نظري وعملي كبير في ترسيخ قواعد النموذج الاقتصادي السويدي. إذ طرح ميردال في مؤلفاته الهامة مثل “النظرية الاقتصادية والمناطق المتخلفة” الصادر في 1964، و”الدراما الآسيوية” الصادر في 1968، العلاقة بين النظرية الإقتصادية وعمليات التنمية بمفهومها الواسع الذي شَكَّل ركيزة هامة في صياغة وثيقة تحويل عالمنا – أهداف التنمية المستدامة 2030 التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 2015.
وتتمتع السويد بواحدة من أهم الأدوات غير المباشرة لترسيخ اقتصاد قوى معتمد على الذات ومنفتح- في نفس الوقت- على الآخر المختلف، حيث تتميز السويد بالاهتمام الأقصى بمكافحة التمييز التي تدعم توظيفًا كاملًا لكل طاقات المجتمع، فالقانون السويدي يحظر التمييز على سبعة أسس: الجنس، والهوية الجنسية أو التعبير عن الهوية الجنسية، والعرق، والدين أو المعتقد، والإعاقة، والتوجه الجنسي، والسن. لدى السويد منظمة تُدعى “وكيل الدولة لشؤون التمييز” (DO) تختص بالأعمال الرقابية للتأكد من مراعاة قانون مكافحة التمييز، وهي المعادل المؤسسي للمفوضية المستقلة لمكافحة التمييز التى نصت على إنشائها المادة 53 من الدستور المصري.
سَبَق الحدث الضخم الذى جرى في واشنطن يوم الخميس الماضي بليلة واحدةٍ، قيام طائرتين مقاتلتين أمريكيتين ترافقهما طائرات مقاتلة سويدية بالتحليق فى سماء ستوكهولم في تدريب مشترك، وصفته الجارديان البريطانية بأنه “لحظة رمزية للغاية لبلد له تقليد طويل من الحياد”. خرج رئيس الوزراء السويدي بعدما تَسَلَم وثيقة العضوية، في خطاب للأمة السويدية تم بثه تلفزيونيًا من سفارة بلاده في العاصمة الأمريكية واصفًا سعادته بالإنضمام إلى الناتو ليقول: “لسنا بأمان إذا بقينا وحدنا. الواحد للكل، والكل للواحد. إنها حقبة جديدة للسويد New Epoch for Sweden”.
كانت المفاوضات لضم السويد وفنلندا إلى حلف شمال الأطلنطي “الناتو”، قد بدأت فورًا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في 2022، ليتم قبول عضوية فنلندا رسميًا للحلف في إبريل 2023 وليتعطل إعلان انضمام السويد بسبب اعتراض كل من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، حيث اتهم الأول السويد بأنها ترعى بعض اللاجئين الأتراك من حزب العمال الكردستاني الموصوف بالإرهاب، ليقبل في يناير الماضي انضمام السويد مقابل إقرار الكونجرس الأمريكي لصفقة طائرات F16 ومعدات عسكرية متطورة بقيمة 20 مليار دولار لبلاده، بينما طالب الثاني الذى تربطه علاقات وثيقة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بأن تبدى السويد بعض الاحترام لبلاده بعد سنوات طويلة من تشويه سياساته وإن كان الغرض المقابل الحقيقي لموافقته هو زيادة الإعانات المالية لبلاده. داخليًا، ووفق استطلاع للرأي جرى مؤخرًا، يرى كثير من السويديين أن بلادهم قد قدمت تضحيات بالغة لتصبح عضوًا بالحلف، إلا أنهم يقدرون أهمية هذا الإنضمام لأمن بلادهم.
على الجانب الروسي، كان الامتعاض باديًا، خصوصًا وأنه بانضمام السويد رسميًا للحلف تكون كل الدول المُطِلَّة على بحر البلطيق، بإستثناء روسيا، قد صارت أعضاءً بالناتو. تعهد نظام الرئيس بوتين باتخاذ إجراءات مضادة سيكون تحديدها مرهونًا بظروف ومدى انخراط السويد في أنشطة الحلف العسكرية بعدما صارت منطقة البلطيق برمتها بمثابة منطقة عازلة بين روسيا والعالم الغربي.
من جهة أخرى، لم تعرب الصين ،كزعيم لتحالفي البريكس ودول شنغهاي، رسميًا عن موقفها، حتى تاريخ كتابة هذه السطور، لكن لا شك في أن اكتمال هذه المنطقة العازلة من شأنه، أن يؤثر جوهريًا في التوازن الجيوسياسي، وما يرتبط به من مشاريع كالحزام والطريق، ومصالح اقتصادية تأتي الطاقة على رأسها، في إطار الصراع الصيني- الأمريكي على مناطق النفوذ وسط عالم مُلتهب زادته مَقتلة غزة اشتعالًا.
وَدَّعَت السويد الحياد لتصبح العضو رقم 32 بحلف شمال الأطلنطي، ليُرفَع اليوم الاثنين 11مارس 2024، عَلَمها لأول مرة أمام مقر الحلف في بروكسل.