أنتجت المأساة الإنسانية السودانية أغاني نسوية، تتساءل متى يجيء السلام “ميتين يجي السلام”، بينما يتفاعل المشهد السياسي في اتجاهات عدة منها، ما هو على المستوى الدولي، ومنها ما هو على المستوى الإقليمي، وفيها مجهودات داخلية، ولكن تظل تساؤلاتنا جميعا هائمة في الأفق أين سلام السودان؟

كان من المفترض أن يجيء رمضان بهدنة وقف إطلاق نار، يتنفس فيها الناس في داخل وخارج السودان، يصومون ويصلون بقدر من هدوء، يلملمون أطراف مآسيهم وأوجاعهم، وقد يهدأون للتفكير، ربما في سبل للخروج من مأزق وجودي يتفاقم.

وقد حاول المشروع البريطاني الذي مر في مجلس الأمن بأغلبية ١٤ صوتا، وامتناع روسيا عن التصويت، أن يجد منفذا لهدنة في رمضان، ولكنه لم يحدد آلية إجرائية لوقف إطلاق النار، ولا مصفوفة سياسية فيها فاعلين محددين على المستوى الدولي، يتولون هذه المهمة، ولا أجندة محددة، تأخذ بعين الاعتبار الخبرات الماضية؛ لتحقيق الهدف المنشود أي هدنة إنسانية للبشر، من هنا جاء قرار مجلس الأمن كطلقة نار في الهواء على الأقل، فيما يتعلق بهدنة في رمضان، ولكن في المقابل قد تكون توجهات مجلس الأمن تعبيرا ومظلة لمجهودات جديدة على الصعيدين الدولي والإقليمي، يتم ترتيبها حاليا، تبدو ملامحها في الأفق، يمكن أن تقود نحو بلورة مبادرة جديدة لسلام السودان، وذلك تأسيسا على معطى المخاوف من الفاعلية الإيرانية، في السودان التي قد يترتب عليها آلية مضافة للقدرات الإيرانية، فضلا عن حالة الاضطراب في البحر الأحمر، والتي قد تشجع فاعلين غير متوقعين للظهور انطلاقا من الشواطئ السودانية، فضلا عن حالة التفاعلات الداخلية التشادية، والتي تعيش فترة من الاضطراب والاغتيالات السياسية، وذلك إلى حد وجود اتهامات من جانب أطراف تشادية للسودان، بالتدخل في هذه الاضطرابات، وهو الأمر الذي يعني في الأخير تداعيات متبادلة التأثير في منطقة الساحل الإفريقي غالبيتها على الأرجح ستكون سلبية.

هذه الاعتبارات، قد تكون دافعة للموقف الأمريكي في هذه المرحة على معاودة نشاطه في الملف السوداني، حيث أن توم بيرييلو مبعوث الإدارة الأمريكية للسودان، يقوم بزيارات حاليا لكل من أديس أبابا والقاهرة وكمبالا، تنتهي مطلع الأسبوع الأخير من مارس، حيث يتم التشاور مع المكونات السودانية، والفواعل الإقليمية بشأن مستقبل التحرك، لتطويق الصراع السوداني ومحاولة استكشاف، ربما معادلة جديدة للتدخل الدولي المشترك؛ لإنهاء حالة الحرب والممارسات الواسعة لانتهاكات، ضد الإنسانية ضحاياها في غالبيتهم من

النساء والأطفال.

على المستوى العربي هناك زيارة لافتة من جانب رئيس الوزراء السوداني السابق للقاهرة عبد لله حمدوك للقاهرة، على رأس وفد من “تنسيقية تقدم” أحد تجليات المكون المدني السوداني. النتائج المرئية للأطراف المستقلة في الصراع السوداني، تشير إلى أنها قد خلقت مجموعة من الإدراكات الجديدة بين الإدارة المصرية، و”تقدم” بعد مرحلة من القطيعة، زادت عن عام في إطار فترة من أزمات، تبلورت في خضم الصراع السياسي السوداني قبيل اندلاع الحرب.

هذه الإدراكات الإيجابية بين الطرفين، قد تؤسس لمقاربات مصرية جديدة؛ تلبية لاحتياجات القاهرة المؤكدة في وقف الحرب السودانية، ومحاولة تأسيس معادلة سياسية مستقرة في السودان، قد تكون في أطر انتقالية أو أطر انتخابية طبقا؛ لتطور حالة التفاعل السياسي الداخلي والإقليمي والداخلي.

ويبدو لنا، أن الفاعلية المرتقبة للقاهرة قد تأسست على أمرين: الأول احتياج دولي وإقليمي ومحلي لهذه الفاعلية، بعد أن تبين أن القاهرة رقما يصعب عزله أو تطويقه في المعادلات السودانية، وأيضا فهم مصري لضرورات وجود وازن للمكون المدني السوداني في مجهودات وقف الحرب، ومعادلات الحل السياسي، ولكن طبقا لشرط توافق وطني بين

عناصر هذا المكون طبقا للضرورات التي يفرضها الواقع السوداني حاليا.

في هذا السياق، أقدمت القاهرة على القيام بخطوتين مهمتين: الأولى تشاور مع قيادات حزب المؤتمر الوطني المحلول بشأن تطويق حالة التحريض على استمرار الحرب من جهة،

واستبيان مدى قدرتهم على أن يكونوا جزءا من توافق، يتطلب من جانبهم تنازلات سياسية محددة.

على صعيد مواز، انعقد في القاهرة الاجتماع الأول للقيادات الأهلية السودانية التي تعني القبائل السودانية، حيث تم عنونة اللقاء بالأول، وهو ما يشير أن له ما بعده، خصوصا في

ضوء البيان الشامل الذي أنتجه هذا الاجتماع، من حيث التأكيد على ضرورات استمرار الدولة السودانية، والحفاظ علي مؤسساتها الدستورية، ووقف الحرب، أو من حيث محاولة

استدعاء أدوار إقليمية للقيام بأدوراها في المشكل السوداني، لكن ربما يكون الأهم في تقديرنا، هو الدعوة لنبذ خطاب العنف، والحض على الكراهية الداخلي، والذي كان بند البيان الأول، ويعكس الاهتمام بالحالة المأساوية التي وصلها الاستقطاب السياسي السوداني بين الأطراف.

أما على المستوى الإفريقي، فيؤشر اجتماع الآلية الإفريقية المنبثقة عن الاتحاد الإفريقي مع عبد لله حمدوك، وآلية “تقدم” في أديس أبابا قبيل زيارتهم للقاهرة إلى وجود اتجاهات للتشاور الإفريقي العربي في المعضلة السودانية، وهو اتجاه دعمه زيارة رئيس الوزراء السوداني للجامعة العربية، واجتماعه بالأمين العام السفير أحمد أبو الغيط.

ويمكن القول، إن مخرجات اجتماع حمدوك، وأبو الغيط تشير إلى أن الجامعة العربية يمكن أن تكون مظلة لدور عربي في السودان، متكامل ومنسق مع الآلية الإفريقية التابعة للاتحاد

الإفريقي من ناحية، كما أنه تعبير، عن أن المسافات بين القاهرة وأبوظبي في الملف السوداني، قد تقلصت على خلفية حالة الفوضى السودانية التي تقول التقديرات، إنها مرشحة؛ لتكون حربا أهلية شاملة، بما يعني خسارة مؤكدة لجميع الأطراف.إجمالا التحركات الدولية والإقليمية التي نشهدها حاليا في الأزمة السودانية، قد تكون إيجابية في اتجاه وقف الصراع المسلح، ولو في هدنة مؤقتة، ولكنها بالتأكيد ليست بديلا عن توافر إرادة داخلية لوقف الحرب، مهما كانت المكاسب العسكرية التي يحزرها أي طرف على الأرض، وذلك في ضوء حجم المآسي الإنسانية والانتهاكات التي أنتجتها هذه الحرب العبثية.