تتناقض المشاعر العامة في النظر إلى مصر، أحوالها ومستقبلها، من لحظة تاريخية إلى أخرى.

عند الصعود والإنجاز، يبدو البلد في عيون أهله عملاقا، بإرثه وحضارته قادرا على اجتراح المعجزات.

وعند الانكسار والتدهور، تتردد في المكان عبارات التهكم والسخرية من أسبابه، ودواعيه لدرجة النيل من البلد نفسه وتاريخه كله.

الحالة الأولى، عميقة ومتجذرة في الثقافة العامة.. والحالة الثانية، تلامس سطح الحوادث بإطلاق النكات على أوجه الخلل الماثلة.

لخص الزعيم الوطني “مصطفى كامل” الاعتزاز الوطني الكامن بعبارته الشهيرة: “لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا”.

كان ذلك التعبير المفرط في بلاغته، ومبالغته تعبيرا في وقته وحينه عن إرادة وطنية، تولد من جديد عند مطلع القرن العشرين بعد سنوات طويلة من الاحتلال البريطاني إثر هزيمة الثورة العرابية (1882).

قد تتغير المشاعر العامة في ظروف عكسية بالمبالغة السلبية هذه المرة، كأن تسحب أية فضيلة عن الشخصية المصرية، كأنها وجدت لتقهر، بينما تؤكد الحقيقة التاريخية، أنها فرضية غير صحيحة.

في الحالتين المتناقضتين، لا يتقبل المصريون، أن يستخف ببلدهم أحد، أو أن ينكر قدرها آخر، أيا كان اسمه وموقعه!!

لخص “صلاح جاهين”، معنى أن تكون مصريا حقيقيا بقصيدته “على اسم مصر” حين ألغى بفيض صدقه، وشاعريته كل تناقض بين لحظتي الصعود والانكسار، الرجاء واليأس.

“أنا مصر عندي أحب وأجمل الأشياء..

باحبها وهي مالكة الأرض شرق وغرب

وباحبها وهي مرمية جريحة حرب

باحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء

وأكرهها وألعن أبوها بعشق زي الداء”.

إنه العشق في ذروة الغضب، والوقوف بجوار بلده في لحظة الكرب.

تحت وطأة شدة الأزمات الماثلة، تحتاج مصر إلى استدعاء روح “صلاح جاهين”، وتجربة “محمد عودة”، الكاتب الصحفي الكبير، الذي لم يصل إليه حقه- بتعبير الأستاذ “محمد حسنين هيكل”.

في قصة مصر الحديثة، بحروبها وثوراتها.. نهضتها وانكساراتها، يبرز اسمه عنوانا لا يمكن تجاهله، وإن طال التجهيل به، لعمق الانتساب إلى الوطنية المصرية.

في لحظات الانكسار والانقلاب على كل معنى وقيمة، لم يفقد أبدا إيمانه التاريخي والصوفي معا بقدرة مصر على النهوض مرة بعد أخرى.

أُدخِل السجون والمعتقلات في عهود مختلفة ومتناقضة، لكنه لم يكن سياسيا محترفا، ولا انضم إلى حزب سياسي بعينه.

قوته في ضميره ورهانه على الأجيال الشابة.

احتضن مواهب جيلي الستينيات والسبعينيات في الأدب، والثقافة والمسرح والفن التشكيلي وكافة مناحي الإبداع.

كان أول من لفت الانتباه العام إلى “عمارة الفقراء” ومهندسها “حسن فتحي”.

أطل على الثقافة الغربية متقنا للغتين الإنجليزية والفرنسية، دون أن ينسى أصله، وناسه منحازا إلى تجربة ثورة يوليو بأبعادها الاجتماعية إلى آخر لحظة في حياته.

كان مستعدا أن يتبنى المواهب الصاعدة دون وصاية، كما لم يفعل أحد آخر باستثناء “عبد الفتاح الجمل”، الذي أتاح عبر الصفحة الأدبية بصحيفة “المساء” فرص النشر لأول مرة أمام كل موهبة.

عندما رحيله رثته نخبة المثقفين المصريين بكلمات متشابهة، كيف احتضنهم، وأخذ بيدهم إلى الشيوع والانتشار، وتأكيد المكانة.. وكيف شد أزرهم، حتى لا يفقدوا ثقتهم في أنفسهم.

تصور كل واحد منهم، أنه اختصه ببنوة خاصة، فإذا بهم يتفاجَأون، عندما نشرت شهادتهم مرة واحدة، أن البنوة عامة.

هذا معنى آخر لظاهرته، التي طوتها دفاتر النسيان، بينما مصر تحتاجها الآن؛ لتأكيد قدرتها على تواصل الأجيال إبداعا وخلقا وقدرة على التغيير.

بين الذين احتضنهم “رجاء النقاش” عميد النقاد العرب لسنوات طويلة والأديبين الكبيرين “بهاء طاهر” و”جمال الغيطاني” والشاعر الكبير “عبد الرحمن الأبنودي” الذي رثاه بواحدة من أجمل قصائده.

كان دوره في الحياة الصحفية أوسع، وأشمل باحتضان الأجيال الجديدة، فكل موهبة بالضرورة تلميذ وابن.

أغلب كبار الصحفيين الذين صعدت أدوارهم مع مطلع القرن الحادي والعشرين، هم من مدرسته الأبوية الحانية، لكن دوره الأكبر الذي تتأكد الآن الحاجة إليه، هو الدفاع المنهجي المتصل عن الذاكرة الوطنية، ووحدة ثورات مصر.

كانت تلك رؤية ثاقبة للتاريخ، لم يصطنع التناقض بين ثورات مصر مدركا، أنه يكرس أكثر النظم تخلفا واستبدادا.

عمل على رد اعتبار الزعيم الوطني “أحمد عرابي” سياسيا وإنسانيا في كتابه البديع “سبعة باشوات وصور أخرى”، الذي كتب مقدمته أمير القصة القصيرة “يوسف إدريس”.

قصة الرجلين تستحق التوقف عندها، وإعادة قراءتها من جديد، لعلها تساعدنا، أن نعرف معنى، أن تكون مصريا الآن.

ولد “محمد عودة” عام (1920).

عندما رحل “سعد زغلول” زعيم ثورة (1919)، احتفظت ذاكرته بمشهد جنازته محمولا على كتفي والده، وهو في السابعة من عمره.

في ذلك العام (1927) ولد “يوسف إدريس”.

كلاهما من نفس المدينة الريفية “فاقوس”، التي تقع شرق مصر، وأشرف بالانتماء إليها، لكنهما لم يتعارفا فيها.

“يوسف إدريس” من قرية “البيروم” عند مدخل المدينة و”محمد عودة” من “جهينة” على الجانب الآخر منها.

جاء الأول إلى القاهرة لدراسة الطب، تطلع أن يكون صحفيا، لكنه اكتشف نفسه ومواهبه في عالم القصة القصيرة مؤسسا لها ورائدا لا يبارى.

التحق الثاني بكلية الحقوق، افتتح مكتبا للمحاماة لوقت قصير في فاقوس، لكنه لم يجد نفسه في تلك المهنة، عمل لبعض الوقت في الإذاعة الهندية خلفا للأستاذ “كامل زهيري”.

تصور لبعض الوقت أن الأدب عالمه، فإذا به يمتهن الصحافة نجما من نجومها الكبار.

أثرت بعمق تجربته الهندية في نظرته إلى الشرق الآسيوي، اقترب من حزب “المؤتمر” الذي قادها إلى الاستقلال عن الإمبراطورية البريطانية، تابع سيرة المهاتما “غاندي”، وقائد الاستقلال “جواهر لال نهرو” و”أنديرا غاندي”.

التحق ببلاط صاحبة الجلالة، كاتبا في مجلتي “روزااليوسف”، و”صباح الخير” قبل أن يلتحق بصحيفة “الجمهورية”.

اكتسب صيته من كتابه الريادي “الصين الشعبية” عام (1955).

كانت تلك مفاجأة، الكتاب والكاتب معا، لابن جيله “يوسف إدريس”.

“كان اكتشافا، لم أعمل له حسابا قط”.

“إنه التاريخ، حين يكتبه فنان بارع حقا واسع الخيال إلى درجة القدرة على تجسيد الحقائق صادقا إلى الدرجة التي كنت أحس فيها، أني لا أقرأ عن تاريخ الصين وثورتها، وإنما أقرأ عن تاريخ شعبي أنا وثوراته، هذا هو منتهى الصدق وهذه هي قمة الحقيقة”.

كانت تلك نظرة ثاقبة في كتابة “عودة”.

مصر حاضرة فيها، بصورة مباشرة، أو غير مباشرة.

“إنه الباحث عن الجوهرة المكنونة في قلب كل شيء، إنه مفتش الكون العام الذي لا يهادن ولا يتراجع”.

ثم يمضي “يوسف إدريس” في مقدمته شبه المنسية لكتاب “سبعة باشوات” إلى نقطة أبعد لمعنى “عودة”، أو أن تكون مصريا حتى النخاع.

“أشهد أن عيوني كانت أحيانا تغرورق بالدموع.. صفحات لا أدري متى كتبها، ولكني كنت أحس، أن كاتبها واحد من هؤلاء الذين تصوفوا في حب مصر والمصريين، باعوا كل شيء، واشتروا هذا الحب”.

“لقد أحسست، أنها جزء من لحمي أنا ودمي وعظامي.. جزء مني.. من ذلك الكل الكبير.. بلدي وشعبي وناسي”.

إنه “عودة” بالضبط.. وهذه كتاباته التي لا تغادرها مصر، حتى إن كتب عن الصين أو الهند.

قيمة هذه الشهادة المغرقة في صدقها، أن العلاقة بين الرجلين بدت كما يقول: “حافلة بالشد والجذب، المحبة والغضب، الوئام والاستنفار الشديد والعراك في بعض الأحيان”.

هذه هي الحقيقة، كما رآها دون مجاملة، أو شبهة مجاملة.

لم يتول “عودة” أي منصب في ظل ثورة يوليو، التي أخلص لها ودافع عنها بضراوة، بعد أن انقضت أيامها، الذي وصل ذروته في كتابه “الوعي المفقود” ردا مدويا على “توفيق الحكيم” وكتابه “عودة الوعي”.

إنه رجل يكتب دوما، ما يعتقد فيه مؤمنا صوفيا بمصر والثورة، وحق المصريين في حياة أفضل، أكثر عدلا وحرية.

كان رجلا لا يباع ولا يشترى، مواقفه بنت قناعاته وبوصلته مصرية منفتحة على عالمها العربي، وهذه مسألة حاسمة تستدعي التأكيد عليها، حتى لا تخسر مصر قضية المستقبل.