في خضم استمرار العدوان الصهيوني على قطاع غزة، تظهر بين الفينة والأخرى، بوادر انشقاق في المواقف بين إسرائيل والولايات المتحدة. واحد من أهم أسباب تلك الخلافات هي، أن الولايات المتحدة مقبلة هذا العام على انتخابات أعلن الحزب الديمقراطي ترشح الرئيس جو بايدن فيها. ولا شك لدى كثيرين، أن السياسة الأمريكية تجاه عدوان غزة، ساهمت في انخفاض شعبية الرئيس، وعرضته لنقد شعبي، وكذا نقد الموظفين القريبين منه بالبيت الأبيض ووزارة الخارجية. أما ثاني أسباب الخلاف فهو رؤية الإدرة الأمريكية للتحول الكبير في الرأي العالمي لصالح إدراك خطورة، ما تقوم به إسرائيل ككيان عاص ومارق عالميا، وهو ما أدى إلى تعميق الفجوة– الكبيرة بداية- بين الصهيونية ومعاداة السامية. ثالث الأسباب، هو إدراك الإدارة الامريكية، أن الحرب على غزة، واستطالة أمدها، أسفر عن زيادة نفوذ إيران في المنطقة، وهو الأمر الذي اعتبرته دوائر أمريكية عديدة، بل وصهيونية، أنه كان في حالة انحسار قبل طوفان الأقصى، فإذ به ينشط من خلال دعم قوى ومساندة لدول الممانعة، وقد عمق من ظهور هذا النفوذ الخيبة الكبيرة التي بليت بها الشعوب العربية في بعض حكامها الذين جُبلوا على الخنوع، والجثو أمام الولايات المتحدة وإسرائيل في ساحات المواجهة.
من هنا يبقى السؤال: هل أصبحت غزة تشكل عائقا بين الولايات المتحدة وإسرائيل في الوقت الراهن؟ للإجابة عن هذا السؤال من المهم التأكيد، إننا أمام عدة مناح لسياسات مبدئية وإجرائية، الأول مرتبطة بمصير الصراع، أو ما بات يعرف باليوم التالي للحرب. أما الإجرائية؛ فتتصل بالخطوات والسياسات اليومية لإدارة الحرب من قبل إسرائيل.
في التعامل مع حماس، لا شك أن الولايات المتحدة تتفق مع إسرائيل على ضرورة تدمير هذا الفصيل الذي تراه، أنه أفشل كل مخططات التطبيع بلا مقابل في المنطقة في الوقت الراهن، وأنه واحد من الكيانات الداعمة لبقاء النفوذ الإيراني. لكن هنا تبدو المشكلة في التعامل مع الموضوع بنوع من الحنكة السياسية إلى جانب التعامل العسكري. فالولايات المتحدة تجد أنه يستحيل القضاء على حماس في تلك المعركة، فهي كيان متجذر، وقد يأخذ وقتا طويلا لاقتلاعه، وهو ما يحتاج لخطوات سياسية وأمنية مهمة. في حين أن إسرائيل ترى أن إكمال المهمة العسكرية سيفضي في نهاية المطاف إلى القضاء على حماس، وهي بذلك لا تدرك حقيقة، أن أية حركة مقاومة لمحتل عبر التاريخ، لم تنزو ألا بعد تحقيق جل أهدافها. صحيح أن الحركة بعد تلك الأشهر من المعارك أُنهكت بشدة، لكن المؤكد أيضا أنه بإمكانها كما حدث من قبل استعادة موقعها سياسيا وعسكريا، رغم أن هذا الأمر قد يأخذ بعض الوقت تلك المرة.
أما بالنسبة لأوضاع المدنيين في غزة، فإن ما خلفته حرب الإبادة الصهيونية– ولا زالت- على هؤلاء هو أمر، يندى له جبين البشرية والنظام الدولي بأسره، الذي أصبح يُنظر إليه، على أنه فقد خاصية النظام، لكونه أصبح يعتمد على شريعة الغاب، ومنطق البلطجة. من هنا فإن الولايات المتحدة رغم كونها في العلن أصبحت ترى ضرورة الحد من الإصابات في صفوف المدنيين، ووقف سياسة العقاب الجماعي والتطهير العرقي الذي تمردت عليه منذ تأسيسها، إلا أنها لا زالت كل تصريحاتها لا تتعدى التصريحات التسكينية التي تجعل من إسرائيل، تزيد من أمد الحرب، وتزيد من أعمال العنف الممنهج بلا رقيب أو حسيب. فهي حتى اليوم لم تصرح برغبتها في وقف فورى لإطلاق النار، حتى أن تصريحات نائبة الرئيس الأمريكي المتكررة، إبان زيارة وزير الدفاع الصهيوني للولايات المتحدة- مطلع مارس الحالي- بضرورة ذلك جرى التعتيم عليها بشكل كبير، ومن ثم بقي التصريح بوقف إنساني مؤقت، وهدنة وغيرها من العبارات والمواقف المائعة التي تنم بلا شك عن وجود مشروع احتلالي، واستيطاني استعماري مشترك للمنطقة بين قوى عظمى، وذنب تاريخي لهيمنتها في المنطقة. أبرز الأساليب المتبعة هنا، هو مد إسرائيل بكل ما تحتاجه من عتاد أثناء الحرب لإكمال مهمة الإبادة، وكذلك توفير غطاء سياسي في الأمم المتحدة؛ لمنع وقف الحرب أو إدانة العربدة الصهيونية في سفك الدماء، وبقاء آلة القتل على أشدها، رغم معارضة الكثيرين داخل الولايات المتحدة بأشكال عنيفة (انتحار آرون بوشنل الضابط الشاب الأمريكي في نهاية فبراير الماضي).
جهود الإغاثة أصبحت واحدة من الأمور التي ظهر بشأنها خلاف بين إسرائيل والولايات المتحدة، فالأولى تهدف وتعمد لتجويع سكان قطاع غزة، بغية إذلالهم، ومساعدتهم لها في إنهاء الحاضنة الشعبية لحماس وفصائل المقاومة، وهي أيضا تهدف من بقاء الحصار عبر معبر رفح في إثبات، أن كل الخيوط بيدها، وأنها عمليا من يتحكم في إمداد القطاع بالسلع والخدمات. لكن الولايات المتحدة، وقد هال العالم درجة دعمها للعدوان على غزة، أصبحت مسألة التجويع تُلصق بها مباشرة، ما جعلها تفكر مليا في الخلاص من التحكم الصهيوني بالمعبر، فتقوم بإلقاء المساعدات من الجو عبر طائراتها مباشرة، وهو أمر ثبت فشله ليس فقط، لأنه برهن على عدم قدرة الولايات المتحدة على الضغط على إسرائيل لفتح معبر رفح، بل أيضا لأنه أكد من الناحية الفنية، أن كمية ما يلقى محدود، ونوعه غير مكتمل لحاجة القطاع، لما هو أكثر من الغذاء (المستلزمات الطبية والأدوية تحديدا)، ناهيك أن بعض المساعدات، ألقيت بالخطأ في بحر غزة. لذلك كله أمعنت الولايات المتحدة في تأسيس رصيف عائم، يعمل كميناء لاستقبال سفن مساعدات من قبرص، وهو ما يرجح أن يبدأ عمليا في منتصف شهر رمضان، لكنه أيضا رغم ذلك قد يبدو غير كاف، لأنه مع بقاء آلة الحرب الصهيونية عاملة، ومع عدم توقف مد الولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل بالسلاح، سيصبح الأمر مضحك ومبكٍ في آن، فاليد اليسري الطارئة والرحيمة؛ لإرسال المساعدات الإنسانية، إلى جانبها يد يمنى مستمرة لمد المحتل بالعتاد العادي والذكي؛ لإبادة الأخضر واليابس. وعامة، فقد حاول نتنياهو في خضم خلافه مع الرئيس بايدن، أن يُظهر أن مد القطاع بالمساعدات بحرا هي فكرته بالأساس، وأنه من أوعز لبايدن بإمكان تنفيذها، وطلب من رئيس قبرص ذلك صراحة في 31 أكتوبر الماضي، وهو ما ذكرته جيروزاليم بوست، منذ أيام قليلة، بالإشارة إلى أن إسرائيل طلبت بالأساس تفتيش السفن في قبرص قبل إبحارها إلى غزة.
واستمرارا في الحديث عن الإغاثة يبدو الموقف الأمريكي مختلف في التفاصيل مع إسرائيل بشأن الأونروا، فإسرائيل تريد إنهاء عمل الوكالة لاتهامها لـ 12 من موظفيها بالمشاركة في طوفان الأقصى ضمن 13 ألف موظف، يعمل بالوكالة في غزة، وهؤلاء هم ضمن 30 ألف موظف، يعملون بالوكالة التي ترعى 6 ملايين لاجئ فلسطيني. هنا يبدو الموقف الأمريكي– الداعم الأكبر للوكالة- يصر على وقف المساعدة للوكالة، ففي 26 يناير الماضي تم الإعلان عن وقف المساعدات بمجرد الاتهام الإسرائيلي للوكالة، وهو ما أثار حفيظة كينيث روث المدير السابق لمنظمة هيومن رايتس ووتش، والذي كتب على حسابه في تويتر يقول: “أتمنى لو كانت حكومة الولايات المتحدة سريعة في تعليق المساعدات العسكرية لإسرائيل بناء على قرار محكمة العدل الدولية بوجود إبادة جماعية (ناهيك عن الأدلة الوفيرة على جرائم الحرب)، مثلما فعلت مع تعليق المساعدات للأونروا؛ بسبب تواطؤ مزعوم لـ 12 موظفا في هجوم حماس”..
أما ما تشير إليه إسرائيل باليوم التالي بعد الحرب، فإن الموقف الأمريكي يرتبط هنا، بما سمي بمبدأ بايدن- الذي أعلنه مطلع فبراير الكاتب الأمريكي اليهودي توماس فريدمان- وهو مبدأ يرتكز على ثلاث نقاط، أولا: احتواء إيران عبر تقليص نفوذها في المنطقة من خلال سياسة مواجهة عسكرية شاملة مع وكلائها. ثانيا: مبادرة أمريكية للاعتراف بدولة فلسطينية منزوعة السلاح في الضفة الغربية، وقطاع غزة عقب قيام مؤسسات فلسطينية ذات مصداقية، وقدرات أمنية، بإدارة المشهد، بحيث تكون الدول قابلة للحياة، ولا تهدد بأي شكل من الأشكال أمن إسرائيل. ثالثا: تأسيس تحالف أمني واسع النطاق بين الفلسطينيين وإسرائيل والولايات المتحدة والسعودية، بما في ذلك تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل.
هذا الأمر يصطدم برؤية نتنياهو الواردة في وثيقة مؤلفة من صفحة وربع الصفحة. وهي مقسمة إلى أربع فقرات، وهذه الوثيقة تتلخص- بعد التأكيد على ضرورة تدمير حماس والجهاد الإسلامي، وعدم الاعتراف بالدولة الفلسطينية- على تعيين “مسئولين محليين” ذوي خبرات إدارية وغير مرتبطين بأية كيانات إرهابية لإدارة الخدمات في قطاع غزة. وتولي إسرائيل السيطرة بشكل أكبر على الحدود الجنوبية لغزة، بالتعاون مع مصر”قدر الإمكان”، وبحيث تقام مناطق عازلة على الحدود لمنع التهريب، وضمان عدم وقوع المزيد من الهجمات. وعدم السماح ببدء إعادة إعمار غزة، إلا بعد نزع السلاح منها، وبدء “عملية مكافحة التطرف”. وكذلك العمل على تمويل وقيادة خطة إعادة الإعمار من قبل دول مقبولة لدى إسرائيل. وأخيرا، تعزيز خطة لمكافحة التطرف في جميع المؤسسات الدينية والتعليمية والرعاية الاجتماعية في غزة. وسيتم ذلك بمشاركة ومساعدة الدول العربية التي لديها خبرة في تعزيز مكافحة التطرف.
هكذا يتبين أن هناك غموضا كبيرا في مبدأ بايدن، ووضوح نسبي في رؤية نتنياهو، رغم ما يمكن أن يُرى من شبه استحالة تحقيق هذه الرؤية أو تلك. فبايدن ليس لديه أي قدرة على فرض حل الدولتين على إسرائيل، بسبب أمور عدة منها عدم القدرة على مقاومة ضغوط المؤسسات الصهيونية الأمريكية، كما أن رؤية نتنياهو غير قابلة هي الأخرى للتنفيذ، لأنها ستحمل إسرائيل أعباء، لم يستطع شارون ذاته تحملها، ناهيك عن أنه هو ذاته سيفقد كل قوته فور انتهاء الحرب؛ بسبب فساده ومحاسبته على عملية طوفان الأقصى.
خلاصة القول، إن ما يُذكر بين الحين والآخر عن خلافات، قد تفضي لمشكلات بين الطرف الأمريكي والصهيوني، هو خلاف إجرائي، وأن السوابق تثبت، إننا أمام تحالف وثيق في مواجهة التحرر من الاستعمار، وحق تقرير المصير لأصحاب الأرض والمقدسات والثروات.