أعقبت تصريحات زعيم الأغلبية الديمقراطية بالكونجرس تشاك شومير، التي هاجم فيها حكومة نتنياهو بنهاية الأسبوع الماضي، عاصفة من الهجوم المضاد غير المسبوق من زعماء في المجموعة الحاكمة بالدولة الصهيونية مشفوعًة، ببيان حادٍ عن حزب الليكود الذي يتزعمه السفاح نتنياهو. كان شومير قد صرح، بأن نتنياهو هو “عقبة كبيرة أمام السلام، وأنه خضع في أحيان كثيرة لمطالب المتطرفين اليهود”، كما أضاف في خطاب له أمام مجلس الشيوخ: “إذا استمرت حكومة نتنياهو في السلطة بعد الحرب، فيجب على أمريكا، أن تعمل بشكل أكثر فاعلية؛ لتحقيق السلام الشامل”، ثم أضاف: “إنه يتعين على إسرائيل إجراء تصويباتٍ كبيرة في المسار، لأجل لتحقيق سلام دائم مع الفلسطينيين”، واصفًا رفض الدولة الصهيونية لحل الدولتين، بأنه “خطأ فادح”.

أتت تلك التصريحات الجديدة، في مستوى حِدَتِها، على خلفية تصاعد واضح في الخطاب الرسمي الأمريكي، عَكَس توترًا من نوع هام، إزاء أداء حكومة نتنياهو في الحرب، خصوصَا وقد تلا هذا التصاعد زيارة، كان قد قام بها بيني جانتس عضو حكومة الحرب المصغرة، للولايات المتحدة الأمريكية، في مطلع هذا الشهر.

كانت صحيفة وول ستريت جورنال في تقرير لها بتاريخ 6 مارس، قد قالت في وصف لقاءات جانتس مع المسئولين الأمريكيين، أن الرجل قد فوجئ “بفجوة كبيرة” بين إسرائيل والإدارة الأمريكية بشأن مخططات الدولة الصهيونية لأعمال الحرب في رفح، وأضافت بأن هناك الكثير من الانتقادات وعدم الثقة في الإدارة الأمريكية، فيما يتعلق برئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.

ورد أيضًا بالتقرير الهام، أن جانتس قد تلقى رسائل حادة حول موضوع المساعدات الإنسانية، وحول اليوم التالي لانتهاء الحرب. كانت وسائل إعلام عبرية قد أفصحت في ذلك الوقت، بأن مكتب السفاح نتنياهو قد عارض زيارة جانتس لأمريكا وبريطانيا، وأن توجيهات كانت قد صدرت للسفارة الإسرائيلية في بريطانيا بعدم المساعدة، أو التنسيق بأي صورة من الصور في زيارة جانتس.

من ناحية أخرى،كان تعليق زعيم المعارضة الصهيونية يائير لابيد شديد الحدة، إذ هَاجم على حسابه بمنصة X تلك التوجيهات، داعيًا إلى رفضها، واصفًا إياها، بأنها تُشَكِل أمرًا غير قانوني من رئيس وزراء غير مسئول، وأن من شأنها تعريض وزير في الحكومة ورئيس سابق للأركان للخطر البالغ. كان جانتس قد التقى خلال زيارته بنائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس، التي انتقدت تعامل إسرائيل مع القضية الإنسانية في قطاع غزة، وأبلغته برفض الإدارة الأمريكية لأي هجوم بري على مدينة رفح، دون وجود خطة واضحة المعالم؛ للتعامل مع أكثر من مليون فلسطيني، نزحوا إلى المدينة في الأسابيع الأخيرة.

كان رد جانتس، بأن على إسرائيل تدمير حماس في جنوب قطاع غزة، لأنه- حسب زعمه- إن لم تتحرك إسرائيل في مدينة رفح، فستتمكن حماس من إعادة تنظيم هياكلها، وتسليح كوادرها مرة أخرى بمجرد التوصل إلى وقف لإطلاق النار، ليعود فيقول: “إن إنهاء الحرب، دون القضاء على القوة العسكرية لحماس في رفح، يشبه إرسال رجال إطفاء لإخماد 80 % من النار”.

وعلى الرغم من أن بيني جانتس قد صرح، منذ أيامٍ في الرد على زعيم الأغلبية الديمقراطية بالكونجرس، بأن شومير هو صديق للدولة الصهيونية، لكنه أخطأ في تصريحه بشأن نتنياهو، إلا أن الجميع ينتظر السقوط المحتوم للسفاح، بعدما أعلن مكتبه يوم الجمعة الماضي، أنه قد اعتمد خطة لشن هجوم على مدينة رفح التي يتكدس فيها نحو مليون ونصف المليون فلسطيني، يقفون على أعتاب المجاعة. تلك إذن هي ورقة السفاح الأخيرة التي يرمي بها في وجه الجميع، حيث لا أحد في العَالَم- سوى حلفائه من المتطرفين الصهاينة- يرغب في أن تصل الأمور إلى هذه النقطة ذات التكلفة السياسية الباهظة التي لا يحتمل تبعاتها أي من أطراف الصراع.

اللافت أن إعلان اعتماده لخطة الهجوم على رفح قد تواكب مع وصول أولى سفن المساعدات الغربية، قادمةً من أسبانيا في ممر بحري جديد من قبرص؛ لتفريغ حمولتها من المواد الغذائية برصيف مؤقت قبالة ساحل غزة المنكوبة، في مشروع تحيط به علامات استفهام كثيرة.

لم تكن- إذن- تصريحات زعيم الأغلبية الديمقراطية مجرد كلامٍ في الهواء، ولم تكن مُنبَتة الصلة، بما سبقها من وقائع، وما سيليها من أحداث، خصوصًا وأن الانتخابات الرئاسية الأمريكية على الأبواب، وهي انتخابات معقدةُ الحسابات بشكلٍ، تتداخل فيه عوامل مُرجِحة شديدةُ الحساسية، تأتي في واقع دولي مأزوم، تتفاعل فيه متغيرات جيوسياسية، تتبدل بموجبها مواقع قوى إقليمية ودولية بصورة سريعة للغاية.

على الجانب الآخر من الأطلنطي، كان هناك تغير ملموس في المواقف السياسية تحت ضغط رأي عام، يتصاعد بشكل يومي، وتحسب له حكومات أوروبا ألف حساب، حيث أعربت وزيرة الخارجية الألمانية التي دَعَمت بلادها موقف الدولة الصهيونية طوال الخمسة شهور الماضية، عن رفضها الصريح لأي خطط صهيونية؛ لاجتياح رفح، إذ قالت في تعليق لها على منصة X: “لا يمكن بأي حال تبرير هجوم واسع النطاق في رفح، وقد سعى أكثر من مليون لاجئ للحماية هناك، حيث لا مكان آخر لديهم يمكن الذهاب إليه. هناك ضرورة إلى هدنة إنسانية فورية، حتى لا يموت مزيد من الناس، وحتى يتم إطلاق سراح الرهائن في النهاية”.

في تقديري، أن الإدارة الأمريكية وحلفاءها قد أدركوا، برسم الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني، والتماسك “النسبي” الهش للفصائل، أن استمرار الأزمة في غزة، قد صار أمرًا مستحيلًا، يُكَبد الأطراف جميعًا تكاليف استثنائية، فما بالك بتصعيدٍ مجنونٍ يتبناه السفاح في طريق الدم الذي اقتربت نهايته. يرغب رئيس الإدارة الأمريكية العجوز ،وهو على أعتاب معركة انتخابية هي الأخطر والأهم، في تفكيك الأزمة لصالح الدولة الصهيونية، على طريقة جيمي كارتر وبيل كلينتون؛ لتحقيق سلام حافظا فيه، بأقل التكاليف الممكنة، على كيان الدولة الصهيونية، بل وساعدا في توسعها في بعض الأحيان بموجبات القوة المفرطة، وهو أمر يقتضي إحلال نتنياهو بحاكمٍ آخر، لا يقل عنه قوةً وحزمًا، شريطة أن تتوافر فيه ثلاث صفات، لا يتمتع بها سوى بيني جانتس: أولا: يتحلى بدرجة أعلى من المرونة السياسية، ثانيًا: لا يحمل ثأرًا شخصيًا “مُباشرًا”، يؤثر-عاطفيًا- على قراراته في التعامل مع الطرف الآخر من الصراع، ثالثًا: أن يكون من غير المُثقلين بأعباء تحالفات مع المتطرفين الصهاينة.

هل قرر المجتمع الدولي الضالع في المقتلة بغزة، إنهاءها مُكتفيًا بنهر الدم الذي لا يفارق العيون والأفئدة؟ ربما تشهد المنطقة في الأسابيع القادمة تغيرات حاسمة، تكون فيها الإجابة أكثر جلاء.