في ص 398 من كتابه “التاريخ الحربي لعصر محمد علي الكبير”، ينقل المؤرخ العسكري الدكتور عبد الرحمن زكي 1904- 1980م، ينقل عن محمد علي باشا 1769 – 1849م، قوله عن تجربته في حكم مصر مع أحد ضيوفه من الفرنسيين، يقول الباشا: “لقد وضعتُ يدي على كل شيء، وذلك لكي أجعل كل شيء مُثمراً، والمسألة مسألة إنتاج، وإذا لم أقم به أنا، فمن يقوم به غيري؟! أين الذي كان يقدم الأموال اللازمة، ويُشير بالخطط التي تُنتهج، والمزروعات التي تُزرع؟ أين الذي كان يتهيأ له، أن يأخذ الناس بطلب العلوم والمعارف التي ترتب عليها تفوق أوروبا؟! أتعتقد أن أحداً في هذه المملكة خطر له- قبلي- أن يجلب القطن والحرير والتوت؟! لا أحد، كان لا مناص لي أن أقود هذه البلاد قيادة الأطفال، لو تركتها لنفسها، سوف تعود إلى الفوضى التي أخرجتها منها”. انتهى الاقتباس.

هذا الكلام كاشف عن الطبيعة المزدوجة للدولة الحديثة التي أسسها الباشا، فهي حديثة، بما أسسه من جيوش وأساطيل، ونظم إدارة وصناعات ومدارس ومشاريع ري، وتحديث زراعي، لم يكن موجوداً من قبل، لكنه في الوقت ذاته مؤسس للطغيان الحديث الذي صار من طبائع الدولة، حتى اليوم والغد، طغيان هيكلي بنيوي متجذر، لا يتصور ولا يتقبل فكرة التحديث، دون عنف السلطة وخسفها بالشعب، واعتسافها معه والاستهانة به والتعامل معه بالاستعلاء والازدراء والاحتقار، أسس الباشا النظرية الحاكمة للدولة الحديثة، حيث الحاكم هو كل شيء، هو القيادة الملهمة، هو المنقذ الأعلى، هو الحكمة الصافية، هو العصمة من الخطأ، أما الشعب فهو حشود من الأطفال، كانت في فوضى قبل مجيئه، ولو تركها لنفسها، فسوف تعود إلى الفوضى من جديد، أنا البوصلة، أنا صمام الأمان، أنا دفة القيادة، أنا الاستقرار، أنا الأمان، أنا أو الفوضى. هذه هي تركة الباشا التي يتوارثها عنه الحكام، سواء أولئك الذين جاؤوا من ذريته ومن صلبه ومن سلالته، حتى منتصف القرن العشرين، أو ما من أتى بعدهم من ضباط، جاؤوا من الجيش النظامي الذي جعله الباشا باكورة الدولة الحديثة وركيزتها الصلبة. هذه النظرية الحاكمة، لم يأت بها الباشا من فراغ، جاء بها من الثقافة السياسية العالمية في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ثقافة الاستعمار الأوروبي التي طوقت شعوب الأرض، وتحكمت في القارات الست بزعم أوروبا خير من سواها، نحن خير منكم، نحن نفهم وأنتم لا تفهمون، نحن التقدم وأنتم متخلفون، ونحن الرشد والنضج والمسؤولية، وأنتم مراهقون أو أطفال وغير ناضجين، لنا الحق في أن نحكمكم، وذلك لصالحكم ولخيركم، حتى لا تعودوا إلى ما كنتم عليه قبل استعمارنا لكم من همجية وبربرية، نحن الحداثة التي أرسلها الله لكم؛ لتخرجكم من الظلام إلى النور، نحن النور القادم من الغرب؛ ليبدد الظلام حيث وجد في أي مكان.
………………………………………………………………………….
في هذا السياق الاستعماري العالمي جاء الباشا، وقد أجاد اللعب مع عتاة الاستعمار في النصف الأول من القرن التاسع عشر، استفاد وأفاد، ناور وحالف وابتعد واقترب، ولم يترك فرصة تسنح، دون أن يستفيد منها، كان من دهاة الحقبة الكبار، لم يكن مجرد تابع أو مقاول من الباطن، كان شريكاً أصيلاً بالقدر الذي تسمح به قدرات وطاقات مصر التي اعتصرها، دون رحمة، في قرابة نصف قرن من حكم مصر، في مناخ مزدحم بالمؤامرات والمكائد والدسائس، وفي شرق إسلامي يتداعى، ويتفكك تحت سطوة الغرب وزحفه الاستعماري، في قرابة نصف قرن، تتطبعت نفسه وروحه وعقله وضميره بطبائع الاستعمار، ثم انطبعت المؤسسات التي أسسها، والدولة التي بناها بهذه الطبائع، انطبعت بها في عمق تكوينها، في دمها، في لحمها، في خلايا دماغها، في ثنايا روحها، انطبعت الدولة الحديثة، بكل ما انطبعت به شخصية مؤسسها من أخلاق وخصائص الاستعمار، وأولها وأخطرها: ازدراء أهل البلد والتصغير من شأنهم، والتحقير من أمرهم وتصوير البلد، أنها من قبله لم تكن شيئاً مذكورها، حتى أتاها فأحياها من رقدة العدم.

هذه السردية الاستعمارية- إحياء مصر من رقدة العدم وشعبها أطفال، ولو تُركوا لشأنهم؛ لغرقوا في بحار الفوضى- تم ترسيخها بعمق، ليس في العقل الباطن للدولة الحديثة فقط، لكن في العقل المفكر لدى النخب الحديثة، خذ عندك مثالاً قريباً، يعود إلى عام 2010م، حين صدرت الطبعة العربية لمجموعة الوثائق الصادرة عن الخارجية الفرنسية، والتي تضم المراسلات والمفاوضات بين فرنسا والباشا حول إمكانية قيامه- بالنيابة عن فرنسا- بحملة عسكرية لغزو ليبيا وتونس والجزائر، وضمها لحكم الباشا، تحت سيادة السلطان العثماني، وكل ذلك لصالح الاستراتيجية الفرنسية في شمال إفريقيا، راجع هذه الترجمة الأستاذ الدكتور عبد الرؤوف أحمد عمرو، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة عين شمس، وصدر الطبعة بكلمة إهداء نصها كالتالي: “إلى ذكرى محمد علي باشا، مؤسس مصر الحديثة، وباعثها من رقدة العدم التي دامت عدة قرون، وإلى ابنه إبراهيم باشا قائد الجيش المصري الذي خاض به عدة حروب متلاحقة مكللة بالغار والفخار في قارات ثلاث”.
خذ عندك مثالاً آخر، من الكتاب المذكور في مطلع هذا المقال، “التاريخ الحربي لمصر في عهد محمد علي الكبير”، وهو صادر عام 1950م، كتب مؤلفه المؤرخ العسكري الدكتور عبد الرحمن زكي كلمة الإهداء إلى الملك فاروق بن فؤاد بن إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي باشا، تقريباً بعد مائة عام من وفاة الباشا، وجاءت كلمة الإهداء كالتالي: “إلى مقام حضرة صاحب الجلالة، فاروق الأول، ملك مصر المعظم، وراعي نهضتها الحديثة”.
لم يقل أي من هذين المؤرخين الحقيقة، والحقيقة هي مصر وشعبها، مصر، كانت أكبر من حكامها، وما زالت أكبر من حكامها، وقد تأسست الدولة الحديثة على العكس تماماً، تأسست على أن الحاكم باشا، والشعب عبيد، الحاكم هو كل شيء، والشعب لا يساوي أي شيء، هذا المفهوم العكوس، جعل من كل جهاز الدولة باشاوات، ينظرون إلى الشعب باستخفاف وازدراء، ليس فقط طبقات الحكم العليا، لكن كذلك أدنى طبقات الموظفين في أي مرفق حكومي تراه في شباكه، أو على مكتبه، ينظر للمواطن من أعلى، حتى وهو يفتح درج مكتبه، أو يمد يده ليتلقى الرشوة مقابل تسهيل قضاء المصلحة، سر الباشا الأول باتع في كل جهاز الدولة حتى هذه اللحظة: أصغر موظف حكومي، في أصغر وظيفة، في أصغر مصلحة، في أصغر قرية يعتبر نفسه باشا.
………………………………………………………………..
غير صحيح أن الباشا أحيا مصر من رقدة العدم، وغير صحيح أنه صاحب فضل على مصر، العكس صحيح مصر، هي من صنعت الباشا، وكل باشا جاء من بعده، مصر هي من صنعت مجد الحكام وغير صحيح، أن الحكام صنعوا مجدها، بل مصر وشعبها، تحملت وصبرت على ما أنزلوه بها من قهر وعسف، ومن فقر وخسف، فلو كان الباشا قد نجح السلطان العثماني في نقله من ولاية مصر إلى ولاية سالونيك في اليونان، أو إلى ولاية جدة في الحجاز، لو حدث ذلك، ما كان الباشا دخل التاريخ، ولا كان صنع التاريخ، ولكان الأرجح أن يخرج من التاريخ، كما دخل مجرد ترس صغير في آلة الامبراطورية العثمانية الضخمة المتهالكة الآيلة للسقوط، لكن إمكانات مصر وعمقها الحضاري ومركزها العالمي كل ذلك، جعل من المواهب الفطرية للباشا- الدهاء العظيم- جعل له قيمة و معنى وجدوى في التاريخ. الباشا جاء مصر، ضابطا غير نظامي، غير متعلم، يترأس قوة حرب عثمانية غير نظامية، جاءها في ساعة ريبة واضطراب، دهاؤه الفطري وذكاؤه الغريزي، وعلو همته ونفسيته الطموحة، كل ذلك أمكنه من ثلاثة أشياء: أولها الوصول للسلطة، ثانيها، البقاء طول العمر في السلطة، ثالثها، توريث السلطة لورثته من صلبه. هذه الأشياء الثلاثة، ما زالت هي جوهر العملية السياسية في مصر حتى اليوم والغد: كيف يصل الحاكم للسلطة، كيف يبقى فيها طول العمر، مع فارق أن التوريث يتم داخل الجيش، وليس للورثة من الأصلاب، ومن حاول تغيير قاعدة التوريث من الجيش إلى النجل، فقد أخل بالقواعد، ومن ثم فقد عرشه ودخل السجن، وجرت محاكمته في سابقة فريدة وحيدة، لم تحدث في تاريخ مصر من قبل.

عندما قال محمد علي باشا لضيفه الفرنساوي، في ص 398 من كتاب “التاريخ الحربي لمصر في عهد محمد علي الكبير”، عندما قال: “كان لا مناص لي أن أقود هذه البلاد قيادة الأطفال”، وأنه: “لو تركها لنفسها لعادت من جديد إلى الفوضى التي أخرجها وأنقذها منها”، عندما قال ذلك كان يضع النظرية التبريرية التي يبرر بها كل حكام مصر، ما لحق البلاد على أيديهم من قهر وفقر، مع فارق أن الباشا كان عظيماً بالفعل، لم يخسر حرباً واحدة، وقد عاش محارباً منتصراً، في الجزيرة العربية 1811 – 1818م، ثم في السودان 1818 – 1820م، ثم في اليونان 1821 – 1827م، ثم في الشام 1831 – 1833م، وقد توسعت مصر في عهده إلى كامل مجالها الحيوي الذي رسمه- في نبوغ وعبقرية- تحتمس الثالث 1481 – 1425 قبل الميلاد، ثم صلاح الدين 1138 – 1193م، ثم الظاهر بيبرس 1223 – 1277م، محمد علي باشا- بغير ديون على الإطلاق- بنى امبراطورية مساحتها عشر أمثال مساحة مصر.

السؤال الآن: هل كان الشعب المصري في حالة طفولة سياسية تبرر للباشا تأسيس دولته الحديثة نموذجاً للطغيان، والتسلط والاستخفاف بالشعب؟.
هذا مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.