قبل أن أشرع في كتابة هذا المقال، حاولت بيني وبين نفسي، أن أحصي عددا وعناوين المشروعات المقترحة من جانب الحركة الصهيونية، ثم إسرائيل لتصفية القضية الفلسطينية، و التخلص من استحقاقات أصحاب تلك القضية، فكانت النتيجة هي ١٠ مشروعات وأكثر، وذلك عدا مشروع بنيامين نيتنياهو الأخير لغزة، ما بعد هزيمة حماس، وهو المشروع الذي يرتكز على إقامة إدارات محلية معزولة عن بعضها البعض، وبلا أي مضمون أو أفق سياسي، والذي بسببه نكتب هذه السطور، لنثبت أن نيتنياهو لن يكون أكثر حظا من أسلافه الذين فشلوا جميعا في طمس الهوية الوطنية الفلسطينية، وتجريدها من أي أفق سياسي، حتى وإن لم يحصل الفلسطينيون بعد على حقوقهم المشروعة.

إنكار الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني هو استراتيجية، ظهرت منذ ظهور الحركة الصهيونية نفسها، فقد روجت الحركة مقولة، أن فلسطين هي أرض بلا شعب، ويجب أن تعطي للشعب اليهودي الذي هو شعب بلا أرض، و كانت تلك الأكذوبة الشنيعة هي “المسوغ الأخلاقي المزعوم” لمطالبة الحركة الصهيونية بوطن قومي لليهود في فلسطين، جنبا إلى جنب مع دعوى الحق التاريخي للشعب اليهودي في الأرض الفلسطينية، واستناد إلى هذا التصور المجحف، والمغالط في إنكاره لوجود الشعب الفلسطيني، فإن وعد بلفور اعتبر هذا الشعب مجرد جماعة من السكان الأصليين، وذلك حين نص على أن إقامة الوطن القومي اليهودي في فلسطين، سوف تقترن بالمحافظة على حقوق السكان الأصليين، أي أنهم فقط سكان أصليين مثل، الهنود الحمر في الأمريكتين، وليسوا شعبا له حقوق مثل كافة الشعوب، وأهمها تقرير المصير، وإقامة دولته الوطنية٠

كانت هذه المغالطة المتعمدة هي القاعدة التي أطلقت جولدا مائير، رئيسة وزراء إسرائيل الراحلة استناد إليها سؤالها الاستنكاري الشهير: أين هو هذا الشعب الفلسطيني المزعوم؟! دلوني عليه.
كان ذلك بعد احتلال اسرائيل لكامل التراب الوطني الفلسطيني في حرب عام ١٩٦٧، ومن ثم دخول جميع الفلسطينيين تحت الحكم الإسرائيلي، و هو التطور الذي أدى إلى بروز الهوية الوطنية الفلسطينية، بعد أن كانت هذه الهوية ملتبسة كثيرا مع الهوية الوطنية الأردنية، بما أن الضفة الغربية كانت جزءا من المملكة الأردنية الهاشمية، فأصبحت إسرائيل- بوصفها قوة احتلال- مطالبة بالاعتراف آجلا أو عاجلا بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وإقامة دولته الوطنية المستقلة، وذلك بقوة الأمر الواقع، قبل أن تصدر بهذا الحق الفلسطيني قرارات من الأمم المتحدة، وقبل أن يتكرس هذا الحق الفلسطيني في تقرير المصير، جزء لا يتجزأ من مواقف القوى العالمية.

تطبيق تال من الإنكار الإسرائيلي المغالط لوجود الهوية الوطنية الفلسطينية، تمثل في ترويج مقولة، إن الأردن هي الدولة الفلسطينية المنصوص عليها في وعد بلفور.

و في محاولة التسوية التي انبثقت عن اتفاقات كامب ديفيد المصرية الإسرائيلية، تحت مسمى الحكم الذاتي، أصرّ رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيجين، على أنه حكم ذاتي للسكان، وليس للأرض، وكان معنى ذلك أن وجود الفلسطينيين في الضفة الغربية هو وجود مؤقت كأمر واقع، أما الأرض فهي ملك للشعب اليهودي، ستؤول إليه في نهاية المطاف خالية من هؤلاء السكان، وذلك بالترانسفير، أي الترحيل الجماعي والتطهير العرقي، عندما تسنح الفرصة.

فيما بعد حاولت إسرائيل استكمال مشروع تصفية القضية الفلسطيني بالإجهاز على المقاومة التي كانت تعمل من لبنان، باعتبار أن المقاومة المسلحة هي التي تبقي القضية على قيد الحياة، وسارت هذه المحاولة في طريقين: الأول، إخراج كوادر منظمة التحرير الفلسطينية، وكوادر المقاومة من لبنان بالكامل، والثاني، هو مذابح صابرا وشاتيلا؛ للقضاء على البنية الاجتماعية الأساسية للوجود البشري الفلسطيني.

ثم جاء قانون يهودية الدولة الذي صدر في عام ٢٠١٨، كتتويج لكل سياسات ومشروعات إنكار وجود الفلسطينيين كشعب له حقوق في الضفة الغربية، وقطاع غزة، أو بوصفه أقلية قومية معترف بهويتها الفرعية في شمال إسرائيل نفسها.

كما جاء هذا القانون (العنصري ) لمصادرة الطرح المتمثل في الدولة الديمقراطية العلمانية على كامل أرض فلسطين، والتي تضم الفلسطينيين واليهود على قاعدة المواطنة المتساوية، وذلك باعتبار أن هذا الطرح يمكن أن يكون الحل العملي الوحيد المتاح، بعد كل ما استولت عليه إسرائيل من أراض في الضفة، بغرض الاستيطان، ولأغراض عسكرية وأمنية.

السؤال الذي يلفت نظرنا بعد هذا الاستعراض الطويل هو: إلى أي حد نجحت إسرائيل في طمس الهوية الوطنية الفلسطينية، وفي التهرب من استحقاقاتها؟

إن حقيقة كون الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ما يزال مستمرا بقوة ،هي في حد ذاتها إثبات قوي؛ لفشل كل المحاولات الإسرائيلية في تحقيق ذلك الهدف، أي الفشل في طمس الهوية وتصفية القضية.
بل ربما كان إمعان إسرائيل في تلك المحاولات قد جاء بنتائج عكسية، فلم تنجح مفاوضات الحكم الذاتي بعد كامب ديفيد؛ بسبب الرفض الفلسطيني الشعبي، قبل الرسمي لمقولة، إنه حكم ذاتي للسكان، وليس للأرض، وهو رفض أدى إلى فشل ذريع لمشروع (روابط القرى ) الذي حاول الاحتلال فرضه؛ ليكون مجرد كيان خدمي يدير الحياة اليومية، ويمثل مواطني الضفة الغربية أمام سلطة الاحتلال فقط، بلا أي مضمون سياسي أو وطني، كما سبق القول.

وكان إخراج المقاومة والمنظمة من لبنان عام ١٩٨٢، مقدمة وسببا؛ لانتقال المقاومة من الخارج إلى الداخل الفلسطيني، فاندلعت الانتفاضة الأولى عام ١٩٨٧، وأعادت فرض القضية الفلسطينية على الجميع، أكثر من ذلك، أنه تحت ضغط هذه الانتفاضة والروح التي بثتها في فلسطيني الداخل، تجددت بقوة المحاولات الدولية؛ للبحث عن تسوية، فتحقق الاعتراف المتبادل بين إسرائيل وبين منظمة التحرير الفلسطينية، ثم انعقاد مؤتمر مدريد، و أنجزت عملية أوسلو، التي جاءت بقيادة المنظمة المنفية من بيروت، إلى رام الله الفلسطينية، و مع إدراكنا لمثالب أوسلو، فإنه تبقى دلالتها القوية على استحالة طمس حقيقة وجود الشعب الفلسطيني، وعلى عبثية سياسات الإنكار الإسرائيلية لتلك الحقيقة، فعلى سبيل التذكرة، فقد رفضت إسرائيل تمثيل المنظمة في مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط، وفرضت على بقية الشركاء، أن يكون التمثيل الفلسطيني مقصورا على فلسطينيي الداخل، فإذا بالوفد الفلسطيني يعلن في أول جلسة، أنه يتلقى توجيهاته “من رئيسنا ياسر عرفات“.

بالنسبة لي، فإن الرفض القاطع الذي قوبلت به خطة بنيامين نتنياهو، المسماة باليوم التالي في غزة من السكان المحليين، وقياداتهم هو استمرار لذلك الخط المتصل من مقاومة خطط تصفية القضية، وتحويلها إلى مسألة سكان، بلا هوية سياسية ولا حقوق وطنية لهم، خاصة إذا تذكرنا، أنه في حالة نجاح فكرة الإدارة المحلية في غزة، بعد حماس بلا أي مضمون أو أفق سياسي، فالمرجح أن تطبق فيما بعد في الضفة الغربية، وبذلك يكون نتنياهو قد وضع الأساس لتصفية القضية بنجاح، لا سيما، وأن مواطني غزة يرفضون، وهم قيد التشريد والتجويع .وحرب الإبادة الجماعية.

ليس ما تقدم هو ادعاء بانتصارات فلسطينية، لم تحدث، بقدر ما هو تسجيل لصمود من جانب الفلسطينيين، يرفض طمس هويتهم، وتجريدها من أي أفق سياسي وطني، وإدمان من جانب إسرائيل أو اليمين الإسرائيلي؛ للالتفاف حول استحقاقات تلك الهوية، دون أي نجاح يذكر في هذه الناحية بالذات.