في مدى زمني وجيز، تدفقت مليارات الدولارات بشرايين الاقتصاد المصري العليل من جهات ومؤسسات إقليمية ودولية عديدة، كأن مايسترو رفع عصاه الموسيقية، قبل أن يبدأ العزف الجماعي.

لم يكن ذلك عملا من أعمال الخير والوقوف مع الدول المأزومة في الشدائد.

لكل شيء ثمن في العلاقات الدولية.

هذا يستدعي التنبه العام لأسبابه، والتدبر فيما بعده.

إننا أمام حسابات مصالح واستراتيجيات، نظرت في مغبة انهيار مصر تحت وطأة الإفلاس المحتمل، ومدى الضرر الفادح الذي يلحق بالإقليم كله والمصالح الغربية فيه.

قبل المشهد الأوركسترالي، تبدت إشارة لافتة على صفحات مجلة “الإيكونوميست” الاقتصادية البريطانية واسعة النفوذ، حيث دعت إلى إنقاذ مصر من انهيارها المحتمل، رغم نقدها الخشن لطبيعة نظامها السياسي.

لم يكن ما نشرته اجتهادا، بقدر ما كان قرارا، قد اتخذ.

كانت صفقة “رأس الحكمة” أول خطوة في سيناريو الإنقاذ العاجل بضخ (35) مليار دولار على مدى شهرين، بينها (11) مليار دولار وديعة إماراتية في البنك المركزي.

في تفسير لاحق، يستمد أهميته، مما حدث بعدها من تدفقات دولارية، أشار تقرير تلفزيوني، جرى بثه على منصات خليجية، أن تلك الصفقة تتجاوز ما هو تجاري، إلى ما هو سياسي، أو إنقاذ مصر من أن تقع مجددا تحت قبضة “الجماعات المتشددة”، هكذا بالنص.

بغض النظر عن أية تحفظات بشأن أية تأثيرات سلبية للصفقة على الأمن القومي بالقرب من الحدود الغربية، فإنها أوقفت تدهور الجنيه المصري أمام الدولار، لكنها لم تكن كافية للخروج من الأزمة الطاحنة، التي تسببت فيها سياسات وأولويات، أغرقت مصر في ديون خارجية، تجاوزت الـ (165) مليار دولار.

كانت الخطوة الثانية في حركة عصا المايسترو، الانتهاء بوقت قياسي من مفاوضات صندوق النقد الدولي؛ لإقراض مصر ثلاثة مليارات دولار.

بدا مثيرا، رفع قيمة القرض إلى ثمانية مليارات دولار على مدار أربع سنوات.

أُعلن عنه دون إبطاء جديد؛ لسد فجوة التمويل، وتعزيز احتياطي النقد الأجنبي، واستقرار سعر الدولار في السوق المضطرب.

كان ذلك قرارا سياسيا لم يصنعه خبراء الصندوق، ومبعوثوه لاعتبارات استراتيجية قبل أي شيء آخر.

كانت الخطوة الثالثة في حركة عصا المايسترو، تدخلا من البنك الدولي بإيعاز سياسي مباشر من القوى المهيمنة عليه، حتى يكون بوسع الاقتصاد المصري أن يسدد ديونه المستحقة عليه في عام (2024).

هكذا تدفقت قروض أخرى بـ “(6) مليارات دولار على ثلاث سنوات.

ثم جاءت الخطوة الرابعة في نوتة المعزوفة الأوركسترالية، بصورة سياسية مباشرة هذه المرة، دون تخف وراء صفقات ذات سمت تجاري، أو عبر مؤسسات إقراض دولية.

إنها اتفاقية “الشراكة الاستراتيجية الشاملة” مع الاتحاد الأوروبي، التي تسمح ضمن تفاهمات، واتفاقات عديدة بالحصول على قروض ومساعدات بقيمة (7.4) مليارات يورو، أو ما يعادل تقريبا (8) مليارات دولار على مدار أربع سنوات ضمن حزم مالية منح وقروض وتسهيلات وشروط ميسرة.

لم يكن التوقيع على تلك الاتفاقية مفاجئا بذاته، فقد جرت اتفاقيات مماثلة مع دول إقليمية أخرى، كما أنه سبقتها، ومهدت لها اتصالات، وتفاهمات منذ عام (2001) على عهد الرئيس الأسبق “حسني مبارك”.

الجديد واللافت، توقيتها وسط مظاهرة استثنائية، ضمت رئيسة المفوضية الأوروبية، ورؤساء وزراء بلجيكا (الرئيس الحالي للاتحاد الأوروبي) واليونان وإيطاليا، ورئيس قبرص ومستشار النمسا.

السؤال الرئيسي هنا:

ما الذي استجد، حتى يأتي الاتحاد الأوروبي في مظاهرة دعم للاقتصاد المصري؟

إنها الخشية من أي انهيار غير مستبعد سوف يؤدي إلى أضرار فادحة بالمصالح الاستراتيجية الأوروبية العليا في المنطقة بالغة الأهمية.

بدواعي تلك الخشية، لم يتردد الاتحاد الأوروبي في الإقدام على تلك الخطوة التي تأخرت طويلا.

باليقين هذا التطور اللافت بتوقيته ورسائله، جرى بتفاهم كامل مع “المايسترو” الأمريكي، أو بإيعاز منه.

استُبعد تماما، ولم يجر التفكير بخيار إسقاط الديون، على نحو ما جرى في خريف (1990)، حين أعفيت مصر من ديونها العسكرية (43) مليار دولار على خلفية دورها في حرب الخليج، حيث قدمت غطاء عربيا للعمليات العسكرية الأمريكية “عاصفة الصحراء”.

كان ذلك ثمنا مريرا لإسقاط الديون العسكرية، نال من الدور المصري، وزنه، واعتباره وهيبته واحترامه.

“الشراكة الاستراتيجية”، تتضمن كلاما عاما، في غير صلب أهدافها الحقيقية، لكنها ضرورية لمراكز التأثير والتفكير، وصنع القرار، حتى لا يتهم قادة الاتحاد الأوروبي بالدفاع عن نظم سجلها الحقوقي محل طعن واسع، كالتأكيد على “الاستقرار الديمقراطي” و”تعزيز الحريات الرئيسية وحقوق الإنسان”.

حسب بعض المعلومات الأولية، أوعز الأوروبيون للقاهرة ضرورة تخفيف قبضة الدولة على الحياة السياسية والإعلامية.

ربما يفسر ذلك وقف حجب مواقع إخبارية عديدة، مصرية وعربية، قبل أن تبدأ الزيارة بوقت قصير.

هذا تطور إيجابي بذاته، لكن سياقه يستدعي التساؤل، عما إذا ما كان النظام الحالي مستعد، أن يمضي في فتح المجال العام إلى مدى أبعد إعلاميا وسياسيا، بدواعي تحسين البيئة العامة المسممة، وتأكيد قدرة المصريين على بناء مستقبلهم بأنفسهم.

بصيغة مباشرة التدفقات الدولارية المتتالية، استهدفت وقف الانهيار، لا إنهاء الأزمة المالية الطاحنة.

الاستثمار في الموقع الاستراتيجي المصري، لا دعم قدرته على النهوض بمهامه الطبيعية في عالمه العربي.

هذا ما لا يصح إنكاره أو التغاضي عنه.

هناك نص عابر، لكنه ملغم في اتفاقية الشراكة عن “التعاون الأمني، دون أن يكون واضحا المقصود به، وإذا كان مطروحا، أن يشمل ذلك التعاون مستقبلا إسرائيل؟!

حسب رئيسة المفوضية الأوروبية “أورسولا فون دير لاين”، فإن “الأوروبيين قلقون إزاء المجاعة في غزة ومن المهم وقف إطلاق النار”.

كانت تلك النزعة الإنسانية جديدة على خطابها السياسي المنحاز كليا إلى إسرائيل.

ثم كانت واضحة في الإشارة إلى الموقع الاستراتيجي المصري، وأهميته القصوى للمصالح الأوروبية.

ثمة دور مصري، يعول عليه في حسابات اليوم التالي بغزة.

ما طبيعته وحدوده؟

هذا سؤال لازم.

التأكيد على المواقف المفصلية ضروري، حتى تستبين السياسات، أو أن يكون مؤكدا، أن الثمن السياسي لن يكون انخراطا، بدرجة أو أخرى، في التهجير الطوعي لأهالي غزة، بعد أن أخفق التهجير القسري إلى سيناء بموقف مصري وفلسطيني موحد.

حسب بعض التقديرات، تستضيف مصر نحو (12) مليون لاجئ من جنسيات عديدة عربية وغير عربية.

بنص اتفاقية “الشراكة الاستراتيجية”، فإن مصر مطالبة بـ “توفير حماية للحدود، والعمل على منع الهجرة غير الشرعية لدول الاتحاد الأوروبي من الدول الملتهبة بالصراعات التي تحيط بها”.. لكنها قد تكون مضطرة حسب إشارات أخرى؛ لاستضافة عدد جديد من اللاجئين الذين يتضررون من تلك الأحداث، والصراعات حولها في إشارة، لا تخفى إلى غزة وأهلها.

هذه لعبة خطرة عواقبها وخيمة على القضية الفلسطينية، التي تكتسب حيويتها وعدالتها من وجود الفلسطينيين فوق أراضيهم المحتلة.

مصر ليست دولة صغيرة، هامشية أو عابرة، في حسابات القوى والمصالح بأكثر مناطق العالم اشتعالا بالنيران.

هذه حقيقة يعرفها العالم، ويتحسب لأي تداعيات سلبية، قد تنال من سلامتها، لكننا ننسى أحيانا أهميتها الجيواستراتيجية، ويتحدث بعض قادتها وأهلها، عنها باستخفاف.

التدافع الغربي لمنع انهيار ذلك البلد المحوري، شهادة جديدة مستحقة على أهمية موقعها، التي دعت الجنرال الفرنسي “نابليون بونابرت”، أن يصفها أثناء حملته عليها، بأنها “أهم بلد في العالم”.

في أعقاب حرب أكتوبر (1973)، صُممت السياسات الأمريكية، بحيث لا تنهض مصر، فتقود العالم العربي، وألا تسقط؛ فيؤدي ذلك إلى دخول المنطقة كلها في اضطرابات واسعة، تؤذي المصالح والاستراتيجيات الغربية.

المصير المصري أحد العناوين الكبرى في الصراع على الشرق الأوسط.

من لا يعرف قدر البلد، قد يصعب عليه قراءة ما يحدث حوله.

حسب مؤسسة “فيتش” الدولية للتصنيف الائتماني، فإن “مصر تحتاج إلى استدامة للإصلاحات، حتى تتمكن من رفع تصنيفها الائتماني”.

ما نوع تلك الإصلاحات؟!

وما مدى فاعليتها في رفع مستوى معيشة المواطنين، الذين يَئِنون تحت وطأة ارتفاعات أسعار غير مسبوقة، تكاد تجعل الحياة غير محتملة؟

إجابة هذا السؤال سوف تحكم على المرحلة كلها.

الأزمة الاقتصادية ما زالت ماثلة ومرشحة للانفجار مرة أخرى، ربما بصورة أكبر وأخطر، إذا لم نراجع أسبابها التي أفضت إليها.

الاحتفاء الزائد بالتدفقات الدولارية، كأنها إنجازات، خداع للنفس والتفاف على الحقيقة.

هذه حقيقة لا يصح إنكارها.