نشرت جريدة الوقائع المصرية في العدد رقم 58 تابع قرار مجلس الدولة رقم 174 لسنة 2024 بنقل مقار دوائر محكمة القضاء الإداري، ودوائر هيئة مفوضي الدولة من مبنى مجلس الدولة بالدقي، ومبنى مجلس الدولة بالعباسية إلى مجمع محاكم مجلس الدولة، الكائن بالقطعة رقم ( 3 / 1 ) – حي خدمات جنوب القرنفل- مدينة القاهرة الجديدة – محافظة القاهرة، اعتبارا من 1 / 4 / 2024.

وهذا القرار يخص دوائر القضاء الإداري بقطاع القاهرة الكبرى الجغرافي، حيث توسعت دوائر مجلس الدولة سابقاً، وباتت تغطي معظم محافظات الجمهورية، وقد كان ذلك مؤسسا على منطق تقريب جهات التقاضي للمتقاضين، والقضاء على مشكلة تكدس القضايا في المحاكم. لكن جاء القرار الأخير مجافيا للقواعد المنطقية والحقوقية، فيما يخص مسألة التقاضي، وذلك بحسبها من الأمور ذات الحساسية الشديدة والهامة للمواطنين، ومن الأمور العادية، أن يمر هذا القرار مثل غيره من القرارات التي أصابت مرفق القضاء، ومؤسسة العدالة خلال السنوات الأخيرة، وكان أهمها الزيادات المضطردة في الرسوم القضائية على نحو لم يشهده الواقع المصري.

وحيث أن القرار الصادر معني بمحكمة القضاء الإداري، والتي تشمل قطاعا جغرافيا عريضا وواسعا، فلك مثلا أن تتخيل، أنك قادم من أقصى شمال الجيزة، ناحية وردان مثلا متوجهاً إلى محكمة القضاء الإداري بالدقي، فإن أقل تكلفة متوسطة للوقت، من الممكن، أن تكون ساعتين، لكن ما هو الوقت حال نقل المحكمة على مقرها الجديد بالقاهرة الجديدة لنفس القادم من الشمال، فأعتقد أنها بأي حال من الأحوال لن تقل عن أربع ساعات للذهاب، ومثلهم للعودة، فهل يستطيع المتقاضي أو المحامي اللحاق بقضيته صباحاً بعد سفر أربع ساعات، وهذه أولى تداعيات القرار الجديد، بخلاف الكلفة الاقتصادية فقط للسفر على المحكمة مضروباً في عدد الجلسات التي تتداولها الدعوى، فهل هناك من سبيل غير التقاضي لحل الامر؟

وقد أوضحت المحكمة الدستورية قيمة الحق في التقاضي، وعدم إرهاقه بالقيود التي تضيق من نطاق ممارسته، أو تحد منها في القضية رقم 39 لسنة 15 دستورية، والصادر بجلسة الرابع من فبراير سنة 1995، بقولها إنه “وحيث إن الدستور بما نص عليه في المادة 68 منه من حق كل مواطن في اللجوء إلى قاضيه الطبيعي انتصافا، مما قد يقع عليه من عدوان، قد دل على أن هذا الحق في أصل شرعته من الحقوق المقررة للناس جميعا، لا يتمايزون فيما بينهم في مجال النفاذ إليه، وإنما تتكافأ مراكزهم القانونية في سعيهم لرد الإخلال بالحقوق التي يدعونها، ولتأمين مصالحهم التي ترتبط بها، بما مؤداه أن قصر مباشرة حق التقاضي على فئة من بينهم، أو الحرمان منه في أحوال بذاتها، أو إرهاقه بعوائق منافية لطبيعته، إنما يعد عملا مخالفا للدستور الذي لم يجز إلا تنظيم هذا الحق، وجعل المواطنين سواء في الارتكان إليه، بما مؤداه أن غلق أبوابه، دون أحدهم أو فريق منهم، إنما ينحل إلى إهداره، ويكرس بقاء العدوان على الحقوق التي يدعيها”.

كما سبق، وأن أكدت المحكمة الدستورية العليا على أهمية تقريب الجهات القضائية للمتقاضين في القضية رقم 11 لسنة 24، بقولها إن “تقريب جهات القضاء من المتقاضين يتوخى ضمان حماية أكثر فعالية لحق التقاضي، وقد أكدت المحكمة على أنه حال تنظيم أمر التقاضي، فلا بد وأن يتم مراعاة، أن الأصل في سلطة المشرع في مجال تنظيم الحقوق، أنها سلطة تقديرية، ما دامت بقيت حركتها محدودة بنطاق الضوابط الدستورية، وجوهرها هو التفرقة بين تنظيم الحق، وبين المساس به على نحو يهدره كليا أو جزئيا، كما أن الحق في التقاضي من الحقوق الدستورية التي يجوز للمشرع، أن يتدخل، وفي دائرة سلطته التقديرية، بتنظيمها على نحو يكفل بلوغ الغاية منه، وهو تحقيق العدالة ورد الحقوق إلى أصحابها.

هذا بخلاف، أن الدستور المصري الحالي قد أكد على مبدأ تقريب جهات التقاضي في المادة 97، بقوله: “التقاضي حق مصون ومكفول للكافة، وتلتزم الدولة بتقريب جهات التقاضي” ، ومع ذلك ما زالت الحكومة المصري كل فترة تصدر قرارات، تمس حالة التقاضي وتنتقص منها، أو تقيدها بقيد سواء كان قيداً مالياً، وهو ما يرهق عند اللجوء إلى القضاء، أو بنقل جهات قضائية أو محاكم إلى أماكن نائية، بما يحد من القدرة على النفاذ إلى الجهات القضائية، بشكل يجب أن تكفل الدولة يسره وسهولته بشكل مرض للكافة، حتى يضمن لهم الدفاع عن مصالحهم، حيث يأتي الحق في التقاضي في مقدمة أغلب الحقوق ، وذلك لكونه يمثل الضمانة التي من خلالها، يمكننا الدفاع عن الحقوق كلها، كما أنه لا غنى عنه للجميع في أي وقت من الأوقات، كما أن ضمان بقاء حق التقاضي وسهولة اللجوء إليه، تبعث المواطنين على الإحساس بالطمأنينة والأمان، وذلك لكون ذلك يصاحبه شعور بوجود العدل ذاته، فهل ما تقوم به الحكومة من قرارات من شأنها الحيلولة، أو على أقل تقدير المساس بالحق في التقاضي، يعد خروجاً منها على مبدأ الشرعية والمشروعية، ذلك جميعه بخلاف، ما صادقت عليه الدولة من اتفاقيات ومواثيق حقوقية، أقرت على نفاذ حق التقاضي، وعدم إرهاقه، بما يجعل اللجوء إليه مجحفاً أو عسيراً.

ومن الناحية الواقعية، فهل يستر دأب السلطة المصرية على هذا النهج في تعاملها مع الحق في التقاضي، إذ أن التصرفات أو قل القرارات الحكومية، ولا أجد بداً، في أن أضيف إلى ذلك القوانين أيضا، فذلك جميعه، لم يدعم حق المواطنين في التقاضي، سواء من حيث نقل مقار المحاكم إلى أماكن نائية، مثل مجمع سجون بدر، أو انعقاد الجلسات بشكل عام داخل مقار السجون، وأخيراً وليس آخراً قرار وزير العدل بنقل مقر مجلس الدولة، والذي يخدم قطاعا واسعا جغرافيا وسكانيا، وهو ما يزيد المتاقضين إرهاقاً، علاوة على ما أصدرته السلطة من قرارات بزيادة رسوم التقاضي، كل تلك الدواعي أو الأسباب، باتت تمثل حائلاً يحول، دون النفاذ إلى الجهات القضائية، فلك أن تتخيل أن محكمة القضاء الإداري، وهي ما كنا نطلق عليها اصطلاحاً “قضاء الحريات” بما كانت تمثله من حماية لحقوق المواطنين وحرياتهم، حال الطعن على أي من القرارات التعسفية التي تصدرها الحكومة، فهل يستطيع أحد تحمل كلفة التقاضي على أي قرار يخص الحقوق أو الحريات، في ظل ما يمر به التقاضي حالياً من ظروف مرهقة، ومن يتحمل كلفة اللجوء لإصلاح شأن عام، في حالة ما يكلفه الأمر سفراً مرهقاً. فرفقاً بالقضاء، ورفقا بالمتقاضين.