أشرت بمقالي الأسبوع الماضي، إلى أن توترًا ملموسًا تشهده العلاقة بين الإدارة الأمريكية الحالية، وحكومة السفاح نتنياهو؛ بسبب الفشل الذريع للأخير في تحقيق أهداف عمليته العسكرية الدموية التي دخلت شهرها السادس، فلا هي قضت على حماس، ولا هي استعادت أمنًا، ولا استردت إلا قليلًا من الأسرى. ما أردت تسليط الضوء عليه في مقال الأسبوع الماضي، هو أن هذا التوتر، لا يَمَس جوهر العلاقة الإستراتيجية التي تربط بين الدولتين، بل على العكس، فهذا التوتر ،كونه يقع بين الإدارة الأمريكية، والسفاح نتنياهو دون غيره، إنما يُفَسَر لصالح توطيد تلك العلاقة الاستراتيجية من خلال جهود الإدارة الأمريكية الحثيثة لإيجاد مخرج للدولة الصهيونية من أزمةِ هزيمتها التاريخية في غزة.

وفي هذا السياق، يمكننا تفسير العناية التي توليها الإدارة الأمريكية لمسألة “اليوم التالي”، التى أراها تمتد، في غرضها الأعلى، إلى ما يتجاوز ملفات من نوع الاستيلاء على الغاز الطبيعي من بحر غزة، أو ترسيخ نظام حُكم فلسطيني مُوالٍ على أي نحو، إلى ما يشمل إعادة ترتيب العلاقات بين أركان الدولة الصهيونية بمفهومها الشامل (حدود جغرافية– شعب يعيش على هذه الحدود- أجهزة تنفيذية وتشريعية وقضائية، تدير شؤون هذا الشعب)، من خلال ترميم جدار الثقة بين أجهزة الدولة من ناحية، وبين المواطنين من ناحية أخرى، حيث شعر المواطن هناك أن لا أمان حقيقي له عندما طالته قذائف المقاومة البدائية فدفعته إلى هجرة معكوسة للبلد التي أتى منها، وما زال يحمل جواز سفرها، بالإضافة إلى استعادة هيبة نموذج “البُعبُع الصهيوني” الذي يعيش وسط مُحيط، يمقته ويخشاه في نفس الوقت.

ولعل ما يؤكد وجهة نظري تلك، هو تعقيب تشاك شومير زعيم الأغلبية الديمقراطية الذي انطلقت أبواق الدعاية الجمهورية، تنتقد تصريحاته التي أشرت إليها بمقال الأسبوع الماضي، والتي هاجم فيها نتنياهو بمنتهى القسوة الاستثنائية. فكان رده على الجمهوريين، أن قال مساء الأربعاء الماضي: “لقد ألقيت خطابي هذا بدافِع حب حقيقي لإسرائيل” (I gave this speech out of a real love for Israel)، ثم أعرب عن مخاوفه، من أن سلوك نتنياهو وشركاءه من اليمينيين المتطرفين سيدفع إلى المخاطرة بتحويل إسرائيل إلى منبوذٍ دولي (International Pariah).

في نفس اليوم الذي أعرب فيه زعيم الأغلبية الديمقراطية بالكونجرس عن “حُبه الحقيقي”، كان السفاح نتنياهو يلعب لعبة موازية، مُخاطِبًا شيوخ الحزب الجمهوري. أذاعت وكالات أنباء أمريكية صباح الجمعة الماضية، أن السفاح كان قد التقى يوم الأربعاء عبر خاصية الفيديو كونفرانس مع بعض أعضاء مجلس الشيوخ من لجنة السياسات بالحزب الجمهوري، وقد عَقَب السيناتور الجمهوري جون باراسو، عن ولاية وايومينج، وهو من دعا السفاح للحديث إلى لجنة السياسات بالحزب الجمهوري، أنه (ننتياهو) قدم للحزب تحديثًا حول أوضاع الحرب، وجهود هزيمة حماس، ومفاوضات إطلاق سراح الأسرى، ثم أضاف باراسو، أنهم قد أخبروا نتنياهو، أن للدولة الصهيونية كل الحق في الدفاع عن نفسها، وأن نتنياهو قال لهم، إن هذا بالضبط هو ما يواصلون فِعله. بعد اتصالات مُكَثفة مباشرة وغير مباشرة بين نتنياهو، ورموز من الحزب الجمهوري، صَرَحَ مايك جونسون رئيس مجلس النواب الجمهوري مساء الأربعاء الماضي، بأنه يدرس طلبًا لدعوة نتنياهو لمخاطبة الكونجرس، ثم قال” أنه من المهم جدا بالنسبة لنا إظهار التضامن والدعم لإسرائيل الآن في وقت نضالهم الكبير، ونحن بالتأكيد نؤيد هذا الموقف، وسنحاول دفع ذلك بكل الوسائل الممكنة”، وأضاف أنه ونتنياهو أجريا محادثة هاتفية مُطَولَة صباح الأربعاء، أكد فيها للسفاح نتنياهو أن خطاب شومير الأسبوع الماضي كان متهورًا وخطيرًا (Foolhardy and dangerous). من ناحية أخرى، تداولت وكالات الأنباء ذاتها، أن نتنياهو كان قد طلب صباح الخميس الماضي عقد لقاءٍ مع أقطاب الحزب الديمقراطي على غرار لقائه مع الشيوخ الجمهوريين، إلا أن زعيم الأغلبية الديمقراطية بالكونجرس رفض ذلك، وأبلغه بأن من شأن هذا الأمر، أن يضر بقضية إسرائيل، إذ يحولها إلى شأن حزبي، مُعَزِزًا قصة “الحب الحقيقي”.

دوليًا، كان صِراعًا من نوعٍ آخر يعتمل بين الفرقاء في الغرف المغلقة خلال الأسبوع الماضي، للانتهاء من مشروع قرار أمريكي، كان يربط بين وقف إطلاق النار، وعملية تبادل الأسرى، للعرض على مجلس الأمن. بدأت ترتيبات مشروع القرار بصياغةٍ؛ لوقف “مؤقت” لإطلاق النار، ولم تنته بأخرى لوقف “نهائي”، حيث تعطل المشروع في المنطقة الرمادية كمجرد وقف “فقط” لإطلاق النار حتى لا يكون هناك إلتزام- ولو شَكلي- على الدولة الصهيونية بعدم العودة للحرب بعد تحرير أسراها. إجتمع المجلس مساء الجمعة؛ للنظر في مسودة القرار، فاستعملت روسيا والصين حق النقض/ الفيتو، ولتبدأ دول أخرى في ممارسة جهودٍ من نوع مختلف، قد تسفر خلال أيام عن صياغة جديدة لقرار آخر، يشمل طرح ضمانات أكثر جدية في إطار التعاريف القانونية التي تستوعب وصف الوقف “الفوري” لإطلاق النار، دون إدراجٍ لذلك التعبير بشكلٍ صريح في مشروع النص الجديد المُحتمل. بشكلٍ عام، فمن الأهمية بمكان إدراك ألا شيء إيجابيًا، يُرتجى من مجلس الأمن بتركيبته الحالية، وآليات عمله التي نشأت في ظروف دولية مختلفة تمام الاختلاف، وأن واقعًا عالميًا مُغايرًا سيفضي إلى نشأة مؤسسات دولية جديدة في ظل صراع جديد، لن تكون الولايات المتحدة الأمريكية بموجبه هي المُتَحَكِم الواحد والوحيد في مقدرات الكوكب الحزين. لكن ما ينبغي أن يَنصَّب عليه اهتمامنا في هذه اللحظة الفارقة، هو ألا تُستخدم القضية الفلسطينية ككرة المضرب التي يتبادل طرفا اللعب تَقاذُفها لصالح تثبيت مَركَزيّهِما، دون حسمٍ حقيقيٍ، يتوقف معه شلال الدم التاريخي، وتُستعاد به الحقوق، حسبما يحددها الشعب الفلسطيني وحده دون شريك برسم وحدة وطنية، تكاد أن تتلاشى كسحابةِ ليلة صيف