في ص 479 من الجزء الثالث من تاريخ الجبرتي “عجائب الآثار في التراجم والأخبار “، طبعة الأنوار المحمدية، نقرأ ما يلي: “فلما أصبحوا يوم الاثنين، اجتمعوا في بيت القاضي، وكذلك اجتمع الكثير من العامة؛ فمنعوهم من الدخول إلى بيت القاضي، وقفلوا بابه، وركب الجميع، وذهبوا إلى محمد علي، وقالوا له: إنا لا نريد هذا الباشا حاكماً علينا، ولا بد من عزله من الولاية، فقال ومن تريدون يكون والياً، قالوا له: لا نرضى إلا بك، وتكون والياً علينا بشروطنا، لما نتوسمه فيك من العدالة والخير؛ فامتنع أولاً، ثم رضي، واحضروا له كركاً- عباءة لها فرو- وعليه قفطان، وقام إليه السيد عمر مكرم والشيخ الشرقاوي؛ فألبساه له، وذلك وقت العصر، ونادوا بذلك في تلك الليلة بالمدينة”.
ورد ذلك، في رصد الجبرتي لأحداث شهر صفر 1220 هجرية، وقد وافق ذاك الحدث يوم الثالث عشر من مايو 1805م، يوم استثنائي في تاريخ مصر الحديث، يوم امتلك فيه المصريون إرادتهم وقرارهم ومصيرهم، يوم كان المصريون فيه هم مصدر السلطات وأصحاب السيادة، عزلوا والياً بمحض وعيهم وقوتهم، وعينوا والياً بمحض اختيارهم ووفق شروطهم، يوم انتزعوا فيه السيادة من السلطان العثماني سليم الثالث 1761- 1808م، الذي كان له وحده بحق الفتح السيادة على مصر، وتعيين ولاتها وعزلهم، كما انتزعوها من المماليك الذين كانت لهم السيادة الفعلية على الأرض طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر، يوم نادر في التاريخ، استخلص المصريون أنفسهم، وقالوا كلمتهم، وفرضوا مشيئتهم.
هذه اللحظة، لم تتكرر في تاريخ مصر، لم يعزل المصريون حاكماً واحداً بمحض قوتهم وإرادتهم، منذ ذاك التاريخ إلا بصورة جزئية في ثورة 25 يناير 2011م، الخديوي إسماعيل عزله الأوروبيون 1879م، الخديوي عباس حلمي الثاني عزله الإنجليز 1914م، الملك فاروق 1952م، توافق على خلعه الإنجليز، والأمريكان، وقالوا هذا مجرد حدث داخلي مصري بسيط، لا يستحق الاهتمام، الرئيس محمد نجيب 1954م عزله الضباط، كما عينوه، الرئيس حسني مبارك 2011م تم عزله بجهد مشترك: ثلث ثورة شعبية، ثلث رغبة أمريكية، ثلث عدم ممانعة عسكرية، وقد تكررت المعادلة في عزل دكتور محمد مرسي 2013م مع إضافة عنصر إقليمي مؤثر.
لهذا يظل يوم 13 مايو 1805م جديراً بالوقوف عنده؛ لأنه يمثل فارقاً كبيراً، عما قبله من تاريخ، كما يمثل فارقاً كبيراً، عما بعده من تاريخ، لم يقل المصريون قبله ولا بعده- مع استثناء ثورة 25 يناير 2011م- بوضوح أنهم لا يريدون الحاكم القائم، ثم يعزلونه من تلقاء أنفسهم، يمتلكون أدوات العزل من حركة جماهيرية نشطة، قيادة سياسية مسموعة الكلمة، رؤية فكرية واضحة المعالم، تجربة كفاحية ونضالية ممتدة في مواجهة المظالم، وعدم الرضا بها، ولا الاستسلام له، لم تكن تلك الارادة التي انعقدت عصر ذاك اليوم وليدة لحظة عابرة، ولا لحظة مصنوعة ولا صدى؛ لتدخل أجنبي ولا واجهةً لقوى خفية ذات مصالح. ذاك اليوم كان عصارة مائة عام أو أكثر من تبلور، وتطور الطبقات الحضرية الوسطى في القاهرة والمدن على مدار القرن الثامن عشر بأكمله، قبل أن يقع التطوران اللذان حكماها فيما بعد:
1 -دولة الطغيان المركزي الحديث التي أسسها محمد علي باشا وذريته، ثم تعمقت بعد حكم ضباط الجيش، منذ مطلع النصف الثاني من القرن العشرين، تعمقت في المركزية والطغيان وسحق الشعب.
2 -إدماج مصر في النظام الدولي، وقد بدأ- على استحياء- مع اقتراب الروس من المشروع الانفصالي الذي قاده علي بك الكبير 1728 – 1773م، ثم مع مجيء نابليون 1798م، ثم مع الغزو البريطاني الأول 1801م بحجة إخراج الفرنسيين، ثم الغزو البريطاني الثاني 1807م، ثم مع مشروع التحديث الذي تبناه محمد علي باشا؛ لاجتناء مصادر قوة أوروبا، حتى يستطيع مواجهة أوروبا، ثم مع الاحتلال البريطاني 1882م، ثم مع النفوذ الأمريكي على مجمل الشرق الأوسط، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
هذا المستجدان: غيرا من تركيبة مصر، بالقطع لم تكن مصر قبلهما جنة، قبلهما كان تاريخ مصر هو تاريخ المظالم، لكن بعدهما صارت مصر سجناً وطنياً عمومياً واسعاً تحت المركزية الطغيانية في الداخل، والتي تخدم مصالح الاندماج الدولي مع الخارج. منذ علي بك الكبير، مروراً بمن أعقبه من مماليك النصف الثاني من القرن الثامن عشر، مروراً بمحمد علي باشا وذريته، مروراً بدولة 23 يوليو 1952م، حتى يومنا هذا، لم يوجد، ولا يوجد، حاكم طغياني مركزي محلي، إلا وله سند وظهير وحليف ومستفيد وداعم وشريك دولي. هذا التبادل في المنافع والمصالح بين المحلي والدولي صنع طغيان الدولة الحديثة، طغيان بنيوي هيكلي وجودي وظيفي متأصل، ليس مجرد مظالم مثل: تلك المظالم اليومية التي كانت سائدة حتى نهاية القرن الثامن عشر. المظالم القديمة لم تكن لها شرعية، كانت انحرافاً عن الشرعية، كانت محل إدانة، ولم يكن لها تبرير إلا حكم القوي على الضعيف. أما المظالم الحديثة- من محمد علي باشا، حتى اليوم- فهي الشرعية ذاتها، هي الأصل، وليست انحرافاً عن الأصل، هي الوطنية، هي القومية، هي النشيد القومي، هي العلم وتحية العلم. قبل الدولة الحديثة، كان الشعب في مواجهة الحكام الظلمة، لكن بعد الدولة الحديث أصبح الشعب في مواجهة مزدوجة: مواجهة الحكام الظلمة، ثم مواجهة الأطراف والقوى الدولية التي تستد وتدعم وتستفيد من الحكام الظلمة، وتكفل بقاءهم وتضمن استمرارهم، وتتدخل لنجدتهم، طالما هم يخدمون مصالحها ولو على حساب مصالح شعوبهم. وحتى يتضح هذا المعنى أكثر، يلزمنا العودة بشيء من التفصيل إلى الجبرتي، باعتباره نقطة الوصل بين تاريخين: تاريخ المظالم القديمة، حتى نهاية القرن الثامن عشر، ثم تاريخ الطغيان الراهن الذي هو عناق الحداثة مع خدمة المصالح الدولية.
…………………………………………………………………..
كيف كانت مصر يوم 12 مايو 1805م؟.
نقرأ ذلك في ص 475 من الجزء الثالث من تاريخ الجبرتي، فتحت عنوان “واستهلت سنة عشرين ومائتين وألف”، أي 1220 هجرية، نقف على الحقائق التاريخية التالية:
1 – نزل الُدلاةُ جهة البساتين، وهم فرقة فرسان استقدمها الوالي أحمد خورشيد باشا من الآستانة؛ ليستقوي بها في لعبة الصراع الداخلي على السلطة، فأكلوا زروعات الناس، ونهبوا البيوت، وطلبوا علوفات زائدة، فرتب لهم الباشا الجرايات أي أكل الجنود، والعليق، أي علف الخيول، والجامكية أي المرتبات الشهرية.
2 – سافر أناس كثيرة، لزيارة مولد سيدي أحمد البدوي، وسافر أيضاَ الشيخ الشرقاوي- شيخ الأزهر- وحضر هناك كاشف الغربية- أي محافظ الغربية- وحصل منه قبائح كثيرة، وقبض على خلائق كثيرة، وبلصهم- أي أخذ ما ما في حوزتهم من فلوس، كما نقول في العامية، خلعهم هدومهم- وحبسهم، وخوزق أناساً كثيرةً من غير ذنب- أول مرة، أقرأ كلمة خوزق مكتوبة- ولا يقبل شفاعة أحد في شيء. (أصول الانتهاكات الأمنية لحقوق الإنسان).
3 – ترك محمد علي وحسن باشا، ما كلفهما به الوالي من حرب المماليك في الصعيد، وفهم الوالي أن محمد علي رجع، وفي نيته الصراع على السلطة، فطلب الوالي أن يجتمع مع المشايخ ونقيب الأشراف عمر مكرم، والوجاقلية أي قيادات العسكر وأرباب الديون، وطلب منهم إقناع محمد علي بالعودة إلى الصعيد أو المغادرة إلى بلده التي جاء منها، والرحيل عن مصر، وهو يتوسط له في منصب أو ولاية غير مصر، وبالفعل جاءه بمنصب ولاية جدة، وقد أخذ محمد علي المنصب، لكن استقوى به، ولم يغادر إلى جدة، وبفي في مصر للكيد، والتدبير الخفي لخلع الوالي.
4 – حضر سكان مصر القديمة – رجالاً ونساءً إلى الجامع الأزهر، يشتكون ويستغيثون من أفعال الدلاتية- فرقة الفرسان العثمانية، وهي خليط من ترك وبوسنيين ومالطيين وصرب إلى آخره- فقد أخرجوا الناس من مساكنهم وأوطانهم قهراً، فركب المشايخ إلى الوالي، وخاطبوه في أمرهم، فكتب فرماناً، يأمر الدلاتية بالخروج من البيوت وتركها لأصحابها، لكنهم لم يسمعوا ولم يمتثلوا.
5 – كانت مصر مشحونة بأخلاط العسكر وأجناسهم المختلفة داخل المدينة وخارجها، يأكلون الزروعات ، ويخطفون ما يجدونه مع الفلاحين والمارين، ويأخذون ما معهم، ويخطفون النساء والأولاد.
6 – قرر الوالي ضريبة على الأملاك- ضريبة عقارية- معتمداً على قوائم الحصر والتعداد التي أجراها الفرنسيون، أثناء سنوات الحملة، ركب المشايخ إلى بيت القاضي- القضاء مستقل، لا سلطان للوالي عليه- والناس تهتف: “شرع الله بيننا وبين هذا الوالي الظالم”، ومنهم من يهتف: “يا لطيف”، ومنهم من يهتف: “يارب يا متجلي أهلك العثمللي”، ومنهم من يهتف: “حسبنا الله، ونعم الوكيل”.
7 – طلبوا- أي المتظاهرون- من القاضي استدعاء، من يمثلون الدولة ويتكلمون نيابة عنها؛ ليمثلوا أمام “مجلس الشرع”- أي سلطة القضاء- وقد حضروا، واتفقوا على كتابة عرضحال، بما يطلبه الشعب، وكتبوا كل المظالم، ووعدوا بالذهاب، ثم العودة بالرد من الوالي. ثم الوالي طلب الاجتماع في مقره بالقلعة مع المشايخ والنقيب عمر مكرم، فرفضوا، وخافوا أن يكون قد رتب لاغتيالهم.
8 – فاجتمعوا في بيت القاضي، وقرروا عزل الوالي، واختاروا محمد علي، وعينوه والياً، وقبل بعد تمنع وتردد خفيف، ثم أرسلوا إلى الوالي، يخبرونه بما انعقد عليه عزم المصريين، فرفض ذلك، وقال: أني مولى من طرف السلطان، فلا أعزل بأمر الفلاحين.
9 – أرسل المشايخ إلى الوالي، أن قرار عزل الباشا هو ما اجتمع عليه رأي الجمهور، ولا ينبغي مخالفتهم وعنادهم، لما يترتب على ذلك من الفساد العظيم وخراب الإقليم.
10 – طلب الوالي سنداً شرعياً، فاجتمع المشايخ في بيت القاضي، ونظموا سؤالاً، وكتب عليه المفتون، وأرسلوه إليهم.
……………………………………………..
خلاصة ما سبق، مصر قبل محمد علي باشا، كان بها مجتمع سياسي ناضج، وكان بها طبقة سياسية متمرسة على إدارة حراك سياسي، وغير صحيح أنها كانت أمة لها عقلية أطفال، كما زعم محمد علي باشا في حديثه بعد ذلك عن نفسه، وعن إنجازات حكمه. واليوم، وبعد مائتي من حداثة محمد علي باشا، فإن مصر تفتقد وجود هذا المجتمع السياسي، وهذه الطبقة السياسية وهذا الحراك السياسي.