كان المشهد مختلفا هذه المرة في مجلس الأمن الدولي.

تبدت آمال واسعة على وقف نار مستدام في واحدة من أكثر الحروب تدميرا ووحشية وانتهاكا لكل قيمة إنسانية، دون أن تغادر قاعة الاجتماعات مخاوف إحباطها بـ “فيتو أمريكي”، كما حدث لأربع مرات سابقة.

اضطرت الدول غير دائمة العضوية في مجلس الأمن، التي تبنت مشروع القرار إلى إدخال تعديلات عليه، حتى يمكن تمريره أمريكيا بالامتناع عن التصويت.

لم يكن القرار في صياغته الأخيرة متوازنا، ولا وضع تحت الفصل السابع الذي يوفر آليات ردع، تضمن تنفيذه، ولا الولايات المتحدة نفسها، أظهرت شيئا من الجدية في إنفاذه، حيث ادعت إنه “غير ملزم”.

رغم ذلك، دوت القاعة بالتصفيق الحاد فور تمرير القرار رقم (2728) بإجماع (14) دولة، وامتناع دولة واحدة (الولايات المتحدة) عن التصويت، كأن المجتمع الدولي أزاح عن صدره وصمة التواطؤ شبه الجماعي على الشعب الفلسطيني بالعجز، أو بتوفير غطاء للعدوان الهمجي عليه.

رفضت إسرائيل ذلك القرار بدعوى، أن هدفيها الرئيسيين من الحرب لم تحققهما وهما: اجتثاث “حماس”، واستعادة الأسرى والرهائن.

بنفس الوقت، نزعت الولايات المتحدة عنه صفة الجدية، كأنه لم يصدر، ولا تترتب عليه أية استحقاقات، كما لا يغير شيئا من التزاماتها تجاه إسرائيل.

لم يحدث وقف فوري لإطلاق النار، ولا انخفضت مستويات الإبادة، التي يتعرض لها الفلسطينيون في غزة تقتيلا منهجيا، وتجويعا مقصودا واستهدافا دائما للمستشفيات.

وفق القرار الأممي المجهض، فإن وقف إطلاق النار الفوري، الذي تبناه محدد زمنيا بشهر رمضان، الذي يوشك على الانقضاء.

إنه “خطوة لوقف إطلاق النار، لا وقفا فوريا ملزما”.

بمثل هذه الصياغات، أُجهضت فاعلية القرار وجدواه في لحظة إعلانه!

رغم أنه لم يدن عملية السابع من أكتوبر، ولم يدمغ “حماس”، بأنها منظمة إرهابية على ما كانت تدعو الولايات المتحدة، إلا أنه أيضا لم يدن حرب الإبادة في غزة، ولا اتهم الجيش الإسرائيلي بارتكاب جرائم حرب.

لم يكن ذلك توازنا بقدر ما كان تعبيرا عن موازين القوى الحالية.

لا يمكن المساواة بين الجلاد والضحية، أو اعتبار الحق في المقاومة إرهابا.

غياب التوازن من طبيعة الاشتراطات الأمريكية لتمريره.

تأكد ذلك المعنى في مسألة الأسرى والرهائن، فهو “يطلب الإطلاق الفوري وغير المشروط لجميع الرهائن”، الرهائن الإسرائيليون وحدهم، دون إشارة من قريب أو بعيد للأسرى الفلسطينيين في المعتقلات الإسرائيلية، وهو سقف أقل بكثير، مما تقبله ولا تمانع فيه أكثر الحكومات الإسرائيلية تشددا، وعنصرية في المفاوضات المتعثرة لتبادل الرهائن والأسرى، وفق نسب متوافق عليها.

كأن القرار الأممي يطلب من الطرف الفلسطيني التنازل عن الورقة التفاوضية الوحيدة، التي يمتلكها مقابل وقف مؤقت لإطلاق النار لعدة أيام، يواصل بعدها جرائم الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين كلهم.

لم يكن ممكنا للمقاومة الفلسطينية، تقبل ذلك النص، لكنه جرى غض الطرف عنه؛ تأكيدا على مبدأ وقف إطلاق النار من ناحية ورهانا على العودة إلى المفاوضات بمركز قوة أفضل من ناحية أخرى.

وقف إطلاق النار هدف أول في الاستراتيجية التفاوضية للمقاومة الفلسطينية.

هكذا رحبت “حماس” بالقرار الأممي، رغم عوراته، أرادت أن تؤكد على قضية وقف إطلاق النار داعية بالوقت نفسه لاستئناف المفاوضات الجارية في الدوحة والقاهرة؛ من أجل “وقف دائم وعودة النازحين”.

اكتسبت المقاومة بذلك القرار نصرا جزئيا، تحتاجه لأخذ نفس جديد في الصمود أمام آلة الحرب الإسرائيلية.

المساعدات عنوان رئيسي آخر في القرار الأممي؛ “لتلبية الحاجات الطبية، وغيرها من الحاجات الإنسانية”.

أمام المحنة الإنسانية في غزة، ومشاهدها ماثلة أمام العالم، بدا الغرب كله، لا الولايات المتحدة وحدها، في عراء سياسي وأخلاقي لا مثيل لتواطؤه في التاريخ الإنساني الحديث.

بقوة الصور تمكنت وسائل التواصل الحديثة من حصار وسائل الإعلام التقليدية، ولعبت دورا حاسما في إطلاع الرأي العام الدولي، في الغرب بالذات على الرواية الفلسطينية بكل آلامها وعذاباتها.

بأثر التظاهرات والاحتجاجات الإنسانية بدت النظم الغربية متهمة أمام شعوبها بالتواطؤ في جرائم حرب.

كان القرار الأممي محاولة جديدة؛ ليبرأ ما يسمى بالمجتمع الدولي ضميره من الدم الفلسطيني.

كل المحاولات فشلت واحدة تلو الأخرى، لأنها لم تكن جادة في وقف العدوان على غزة، أو ردع إسرائيل بمعنى أوضح.

من المستحيل تماما تجاهل الطلب الإنساني الملح؛ لإنقاذ أهالي غزة من التجويع المنهجي، والإذلال المقصود، غير أن الفعل نفسه ظل معلقا في فراغ الدعايات.

فرضت إسرائيل كلمتها في إحكام الحصار على غزة بتواطؤ، أو عجز شبه كامل غربيا وعربيا!

استهدف إحكام الحصار دفع أهالي غزة إلى الانقلاب على المقاومة، وهو ما لم يحدث، أو النزوع إلى مغادرة القطاع كله؛ بحثا عن فرصة حياة، وهو ما لم يحدث أيضا.

ما المدخل الصحيح لحل الأزمة الإنسانية المروعة في غزة؟

إنه إيقاف الحرب، التي لن تكسبها إسرائيل أبدا، والاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره على أرصه.

هكذا بكل وضوح.

في أية حسابات لما بعد القرار الأممي، يطرح سؤال الثابت والمتغير في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية نفسه بإلحاح بالغ.

كان الرد الإسرائيلي على امتناع الولايات المتحدة عن استخدام حق النقض حادا وغير معتاد.

بقرار من رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو”، جرى منع وفد عالي المستوى من زيارة واشنطن؛ للتباحث في البدائل المتاحة؛ لاجتياح رفح الفلسطينية.

بدت ردة الفعل الأمريكية خجولة ومهتزة، حيث وصف “جون كيربي” المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي ذلك الإجراء بـ “خيبة أمل”.

تدريجيا علا نوع من الخطاب الأمريكي شبه الاعتذاري، فلا تغيير في طبيعة العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، ولا تراجع عن التزامات واشنطن.

أية أوهام أخرى لا محل لها من إعراب، أو نظر.

حدود الخلاف في التكتيك لا في الاستراتيجية.

أهداف الحرب متفق عليها، دون أن يكون هناك توافق على الخطوات السياسية بعد انتهاء الحرب.

“معركة رفح” الاختبار الأول لما بعد قرار مجلس الأمن.

الأمريكيون يحذرون الحليف الإسرائيلي من الإقدام على هذه الخطوة.

لا يمانعون مطلقا، لكنهم يشترطون ضمانات واقعية لحماية المدنيين، ويشكون في قدرة إسرائيل على توفيرها، ولديهم مخاوفهم من أن يفضي اجتياح رفح إلى مذبحة مروعة، قد تنال من حوالي مليون ونصف المليون فلسطيني، يحشرون في منطقة ضيقة للغاية بقرب الحدود المصرية.

الإسرائيليون يصرون على الاجتياح، لكنهم لا يجرؤون عليه، دون ضوء أخضر أمريكي.

إذا ما أوقفت الحرب الآن؛ فإنها هزيمة استراتيجية يصعب تحمل تداعياتها إسرائيليا، كما يقول “نتنياهو” نفسه.

وإذا ما تمددت الحرب لفترات أخرى، فإنها قد تقوض فرص تجديد ولاية الرئيس الحالي “جو بايدن”، الذي يتعرض لانتقادات حادة داخل حزبه الديمقراطي.

أين العالم العربي من ذلك كله؟!

إنه الغياب عن أي دور أو فعل، كأنه في غيبوبة تاريخية.