حتى لا تتحول مواثيق واتفاقيات حقوق الإنسان لركام من الأحبار على رزم من الأوراق لا تجد طريقها للتطبيق ووضعها موضع التنفيذ والنفاذ، أنشأت الأمم المتحدة “هيئات المعاهدات” باعتبارها أحد الآليات الأساسية التي يستند عليها نظامها لحماية حقوق الإنسان عالميا، أما اللجان التابعة للمعاهدات فهي كيانات مكونة من خبراء مستقلين ترشحهم وتنتخبهم الدول. وتمثل الهيئات آليات محورية؛ لضمان تنفيذ الدول لمعاهدات حقوق الإنسان الدولية.
وتأتي أهمية هيئات المعاهدات من دورها في مراقبة، ورصد التزام الدول بمعاهدات حقوق الإنسان.
لجان ومهام
ومن المهام الرئيسية للجان، مراجعة التقارير الدورية التي تقدمها الدول، وتقديم الملاحظات والتوصيات؛ بشأن أوضاع حقوق الإنسان المرتبطة بالمعاهدة .
كما تقوم اللجان بالتحقيق والنظر في شكاوى، ومزاعم انتهاكات حقوق الإنسان المقدمة من الأفراد، كما ترسل بعثات للدول للتحقيق.
هناك عشر لجان في الأمم المتحدة للإشراف على معاهدات حقوق الإنسان الدولية المختلفة، وهي لجنة القضاء على التمييز العنصري، ولجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واللجنة المعنية بحقوق الإنسان، واللجنة المعنية بالقضاء على التمييز ضد المرأة، ولجنة مناهضة التعذيب، ولجنة حقوق الطفل، واللجنة المعنية بالعمال المهاجرين، واللجنة الفرعية المعنية بمنع التعذيب وغيره من ضروب المعاملة، أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو المهينة، واللجنة المعنية بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، واللجنة المعنية بحالات الاختفاء القسري.
ويعد التوسع في استحداث معاهدات وبروتوكولات، تحمي وتضمن حقوق الإنسان، أحد أهم التطورات الإيجابية التي طرأت على منظومة حقوق الإنسان الدولية خلال العقود الأخيرة.
وانعكس هذا بوضوح على إنشاء هذا العدد من الهيئات، لكن هذا التوسع السريع صاحبته تحديات، أثرت بشكل سلبي على فعالية وأداء لجان حقوق الإنسان.
هيئات المعاهدات: الطموح والعقبات
مع تزايد عدد معاهدات حقوق الإنسان الأساسية، والبروتوكولات الاختيارية، تفرعت وتنوعت اللجان المسئولة عن كل معاهدة، وازدادت مهام الهيئات تعقيدا. ولهذا بدأت مؤسسات الأمم المتحدة والخبراء، والأمناء العامون، يلاحظون أن الهيئات لا تعمل بكفاءة كافية؛ لمواكبة الضغط.
يرجع الأمر للعام 1988، عندما كلف الأمين العام للأمم المتحدة، الخبير فيليب ألستون؛ لبحث التحديات التي تواجه عمل الهيئات، ومنذ ذلك الحين عرض الأمناء العامون عدة تقارير حول المشكلات التي تعوق عمل اللجان.
مع زيادة أعداد المعاهدات الأساسية والبروتوكولات الاختيارية بشكل غير مسبوق، واعتماد المزيد من المعاهدات، كثر عدد الدول التي تصدق على تلك المعاهدات والبروتوكولات. وبالتالي، تضاعفت التقارير الدورية المقدمة من الدول، وتكاثرت الشكاوى؛ بشأن الانتهاكات المزعومة المقدمة من الأفراد في الدول المختلفة بشكل مهول.
ورغم أن تسارع تصديق الدول على المعاهدات يشكل تطورا إيجابيا بلا شك، لكنه على الجانب الآخر، أثقل مهام هيئات حقوق الإنسان المختصة بمراجعة تلك التقارير، والشكاوى والتحقيق فيها. سرعان ما تراكمت التقارير والشكاوى أمام اللجان، وأصبحت هناك آلاف التقارير والشكاوى تنتظر المراجعة.
الأزمة تفاقمت أيضا؛ بسبب نقص الموارد المالية والبشرية، فمع تعقيد وازدياد مهام اللجان وعددها، ظلت ميزانية الأمم المتحدة ثابتة ومحدودة للغاية، وظل عدد العاملين غير كاف؛ لمواكبة تلك التطورات.
لم تتوقف المشكلات التي تعوق فعالية أداء لجان حقوق الإنسان عند اشتداد الضغط، ونقص الموارد فقط، فقد نتج عن تنوع وتفرع اللجان مشكلات جوهرية في عمليات التنسيق والحوكمة. فلا يوجد تنسيق كاف، أو تماسك بين اللجان العشر، فلكل لجنة قواعد وإجراءات خاصة بها منفصلة عن الأخريات.
وما يجعل الأوضاع أكثر تعقيدا، هو أنه وعلى الرغم، من أن كل لجنة تشرف على مسألة محددة تتعلق بموضوع المعاهدة، لكن قضايا حقوق الإنسان التي يفحصونها، تتداخل رغم اختلافها، وهذا يؤدي إلى إهدار الموارد.
كما أن هناك تحديات؛ بشأن عمليات العضوية في تلك اللجان، منها غياب حد أقصى لفترة العضوية في كثير من الهيئات، مما أدى في بعض الأحيان إلى استحواذ دولة على مقاعد لفترات طويلة.
كما يوجه نقد للجان، أنه يغيب عنها الشفافية في ترشيح وانتخاب الأعضاء، ولا يوجد آليات لمحاسبة أعضائها، إضافة إلى بعض الغموض والعبارات الفضفاضة في متطلبات العضوية.
بحثا عن حلول
بين الأعوام 2002 و2006، صدرت اقتراحات من الأمين العام كوفي عنان، والمفوضة السامية لويز أربور، لتوحيد وتبسيط آليات عمل الهيئات وإصدار التقارير.
ورغم رفض تلك المقترحات وقتها، لكنها ساهمت في جهود تعزيز الهيئات فيما بعد.
وفي عام 2009، أطلقت المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان مبادرة؛ تهدف لتعزيز هيئات المعاهدات، وكانت تلك خطوة محورية في تدعيم هيئات حقوق الإنسان.
نتج عن تلك المبادرة، عقد مجموعة موسعة من النقاشات؛ لبحث المشكلات التي تواجه هيئات المعاهدات؛ لإيجاد حلول لها، وضمت المناقشات أطرافا متعددة مثل: الدول وخبراء الأمم المتحدة وأعضاء اللجان، ومؤسسات المجتمع المدني وأكاديميين.
وفي عام 2012، اتخذت الجمعية العامة قرارا؛ لبدء عملية حكومية دولية شفافة ومفتوحة؛ للتداول بشأن مسألة تعزيز الهيئات الدولية.
وأخيرا، في عام 2014، اعتمدت الجمعية العامة قرارا، بعنوان “ﺗﺪﻋﻴﻢ ﻭﺗﻌﺰﻳﺰ ﻓﻌﺎﻟﻴﺔ ﺃﺩﺍﺀ ﻧﻈﺎﻡ ﻫﻴﺌﺎﺕ ﻣﻌﺎﻫﺪﺍﺕ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ” وتضمن القرار مجموعة من التوصيات التي تخفف العبء على اللجان عن طريق تبسيط، وتيسير إجراءات تقديم التقارير ومراجعتها خلال الحد من عدد الكلمات واللغات وغيرها من الإجراءات، مع التأكيد على أهمية زيادة الموارد المخصصة للجان، وتعزيز عمليات التنسيق بين اللجان المختلفة، بالإضافة إلى التأكيد على التمثيل العادل، والشفاف في عضوية اللجان على مستويات التنوع الجغرافي والنوع الاجتماعي. ولقد استحدث القرار ايضا آليات استعراض، تجعل الأمين العام يقدم تقارير دورية حول أوضاع هيئات المعاهدات، والتطورات التي طرأت، فيما يتعلق بالتدابير المنصوص عليها في القرار.
معوقات لاتزال موجودة
أسفرت تلك الإصلاحات والقرارات عن تطورات إيجابية على أرض الواقع. فأصبح هناك تنسيق أكبر بين لجان المعاهدات المختلفة، وأصبحت هناك اجتماعات مشتركة يتم عقدها بين اللجان، كما أصدرت اللجان عدة قرارات مشتركة في السنوات الأخيرة. إضافة إلى إحراز تقدم إيجابي في مسألة معالجة مراجعة التقارير والشكاوى المتأخرة.
هناك خطوات فعالة ونتائج إيجابية بالفعل، فيما يخص تعزيز هيئات حقوق الإنسان، ولكن لا تزال المشكلات الجوهرية التي تعوق جهود لجان الأمم المتحدة مستمرة حتى يومنا هذا.
على الرغم من استحداث اجتماعات سنوية بين رؤساء لجان حقوق الإنسان، وإصدار بعض القرارات المشتركة، لكن في أحيان كثيرة لا تطبق اللجان المختلفة تلك القرارات المشتركة وتتجاهلها، ولهذا تظل الهيئات تعمل بشكل منفصل، بلا وجود تنسيق منهجي بينها.
كما أن مؤسسات الأمم المتحدة، ولجان المعاهدات بشكل خاص، تعاني حتى الآن من أزمة كبيرة في التمويل، ونقص الموارد البشرية.
مستوى الموارد المالية الحالي لا يتناسب مع التوسع المستمر في نطاق الآليات الدولية، ويتبع هذا أن أزمة التقارير، والشكاوى المتراكمة التي تنتظر المراجعة، لا تزال مستمرة حتى الآن.
ولهذا تستمر منظمات المجتمع المدني حول العالم– في تقاريرها المتعلقة بمسألة تعزيز الهيئات- بالتعبير عن قلقها الحاد؛ بشأن ضعف التنسيق بين لجان المعاهدات، وتأخر اللجان في مراجعة العدد الضخم من الشكاوى والتقارير.
كما تناشد منظمات المجتمع المدني الدول حول العالم تقديم الدعم المالي اللازم لمؤسسات الأمم المتحدة؛ من أجل مواجهة فجوة التمويل التي تعطل عمل لجان حقوق الإنسان.