كلمة مندوب إسرائيل الدائم في الأمم المتحدة يوم الاثنين الماضي، “جلعاد إردان” كاشفة للأزمة الهيكلية في خطاب النخب السياسية والعسكرية في إسرائيل، فلأول مرة في تاريخ بلد من البلدان، ينتقل فيها خطاب التطرف من أحزاب، وتنظيمات سياسية إلى منظومة حكم مهيمنة على المجتمع، تبرر القتل واستهداف المدنيين.

والحقيقة أن كلمة المندوب الإسرائيلي كانت كاشفة لهذا التغيير، فجاءت قبل إصدار المجلس لأول مرة، منذ اندلاع الحرب قرارا أمميا ملزما بوقف إطلاق النار، وتضمنت نقطة أساسية تمحور حولها الخطاب كله، وهي اعتبار أن المشكلة في الشعب الفلسطيني الذي يدعم حماس، أو أن حماس لديها حاضنة شعبية بما يعني، أنه من المبرر استهداف الشعب والمدنيين وفق هذا التصور الذي اعتبر، أن المشكلة في الشعب وليس الاحتلال.

ولقد وصف المندوب الإسرائيلي قرار مجلس الأمن الداعي إلى هدنة؛ لإيصال المساعدات الإنسانية للمدنيين، بأنه “منفصل عن الواقع، ولا معنى له”، وأبدى عدم اكتراثه بما يقرره مجلس الأمن، وقال إن إسرائيل ستواصل عملياتها، وستلتزم بالقانون الدولي، وهي كذبة كبرى؛ لأن ما قامت به إسرائيل يمثل جريمة إبادة جماعية، واستهداف متعمد للمدنيين، بما يمثل انتهاكا صارخا للقانون الدولي.

والحقيقة أن جوهر الخطاب الإسرائيلي ينطلق من فرضية استشراقية قديمة، تقول إن العيب في الشعوب العربية والإسلامية غير القابلة للتطور، ولا الاندماج في القيم المدنية الحديثة، ولكنه وضعها في قالب إجرامي أكثر عنفا وتطرفا، معتبرا أن ثقافة العنف متأصلة في الشعب الفلسطيني، وأن حركة حماس هي نتاج هذه الثقافة العربية الإسلامية، التي هي بنيويا وبحكم الطبيعة ثقافة عنيفة، تحرض على العنف والإرهاب.

والحقيقة أن أخطار هذا الخطاب مزدوجة فهو من ناحية، يمثل أسوأ صور الخطاب الاستشراقي عنصرية وتطرفا، كما أنه من ناحية أخرى يتجاهل مسئولية الاحتلال في استدعاء ثقافة المقاومة العنيفة داخل أي مجتمع، وليس فقط الفلسطيني.

والحقيقة أن مشكلة هذا الخطاب لا ترجع لحماس، ولا لخطاب المقاومة العنيفة، إنما هي في بنية المجتمع الإسرائيلي، وفي خطاب منظومة حكمه المتطرفة، وذلك قبل عملية ٧ أكتوبر التي يعتبرها البعض، أنها كانت السبب وراء اتجاه المجتمع الإسرائيلي نحو التطرف.

صحيح أنها أثرت فيه، ولكنها أثرت في منظومة سياسية، كانت متطرفة أصلا؛ لأن هذه العملية لم تأت من فراغ، إنما كانت نتاج سنوات من القهر والقمع والقتل، والتهجير التي مورست على الشعب الفلسطيني.

فعلينا أن نتذكر، أن عدد المستوطنين عشية التوقيع على اتفاق أوسلو في ١٩٩٣، كان حوالي ١١٥ ألف مستوطن فقط، واقتربت من ٤٠٠ ألف في ٢٠١٥، حتى وصلت حاليا إلى حوالي ٧٠٠ ألف مستوطن، ويكفي ما ذكرته وزيرة المواصلات الإسرائيلية قبل أسابيع من عملية ٧ أكتوبر، وعقب افتتاحها لطريق “التفافي” في الضفة الغربية، يخص المستوطنين، بأنهم” لن يروا فلسطينيا واحدا في حال أخذوا هذا الطريق”.

وعلينا ألا ننسي أيضا، أن وزير المالية الإسرائيلي “بتسلئيل سموتريتش”، الذي يرأس حزب “الصهيونية الدينية” المنضوي داخل التحالف الحكومي الحاكم، نفى وجود الشعب الفلسطيني خلال زيارة خاصة إلى باريس قبل عملية 7 أكتوبر، قائلًا “إن فكرة الشعب الفلسطيني مصطنعة، ولا يوجد شيء اسمه دولة فلسطينية. لا يوجد تاريخ فلسطيني. لا توجد لغة فلسطينية”، وتحدث على منصة مغطاة بصورة، تظهر خريطة إسرائيل تشمل الضفة الغربية المحتلة وغزة والأردن.

إن هذه اللغة العنصرية، والممارسات الإسرائيلية في بناء المستوطنات وتهجير الفلسطينيين وقتلهم، كانت قبل ٧ أكتوبر، وتعمقت بعدها، وأن هذا الخطاب الصهيوني المتطرف الذي يحرض على القتل، ويكرس الاستيطان هو الذي أنتج مشروع المقاومة العنيفة الذي مارسته حماس.

صحيح أن الخطاب التالي لعملية ٧ أكتوبر كان أكثر تطرفا، وعدوانية وصراحة في التحريض على قتل الجميع مدنيين ومسلحين، رجال ونساء، شيوخ وأطفال، وهو الخطاب الذي استخدمه نتنياهو، وقادة ما تعرف بالأحزاب المدنية في إسرائيل، وليس فقط الأحزاب الدينية من تحريض على القتل والتدمير، فقد استدعى نتنياهو نبوءة إشعياء”؛ لتبرير مواصلة حربه على غزة، وقال: “نحن أبناء النور، بينما هم أبناء الظلام، وسينتصر النور على الظلام”.

غير أن الحاخام “مانيس فريدمان” تحدث صراحة، عن أن الطريقة الوحيدة؛ لخوض حرب أخلاقية هي الطريقة اليهودية: “دمِّر أماكنهم المقدسة، واقتل رجالهم ونساءهم وأطفالهم ومواشيهم”. وأن تلك هي قيم التوراة، التي ستجعل الإسرائيليين “النور الذي يشع للأمم التي تعاني الهزيمة؛ بسبب هذه الأخلاقيات (الغربية) المُدمِّرة التي اخترعها الإنسان”.

يحتاج المرء لاستدعاء خطاب داعش في مواجهة المخالفين لهم عقائديا؛ لكي نجد مفردات مشابهه لتلك التي استخدمها هذا الحاخام اليهودي.

وهناك دعاوى إسقاط القنبلة الذرية على غزة، ووصف أهلها، بأنهم حيوانات بشرية أو تشبيهم بالعماليق الذين حاربهم بنو إسرائيل، وقضوا عليهم بقتل النساء والأطفال، وإبادة نسلهم، وهو ما تفعله إسرائيل في قطاع غزة بدم بارد، ودون أي محاسبة.

يقينا الخطاب الإسرائيلي الذي يقال داخل إسرائيل وخارجها، لا يحرض فقط على الكراهية والعنصرية، إنما يعطي غطاء سياسيا لجرائم الإبادة الجماعية، وقتل المدنيين والأطفال بشكل متعمد، وإن الاستماع الدقيق لرموز  منظومة الحكم، والتطرف في إسرائيل سيكتشف، أننا أمام خطاب غير مسبوق في تاريخ الدول الاستعمارية، التي كانت تحرص على تقديم حجج ما للاحتلال، فقد كان هناك مبرر سياسي استراتيجي وراء احتلال دول استعمارية كبرى لدول أضعف، مثل السيطرة على طرق ملاحة حيوية، أو من أجل استغلال اقتصادي أو حمل رسالة ثقافية، لكننا لأول مرة نجد احتلالا مثل إسرائيل، يكون هدفة القتل والتهجير، دون حتى أي حجة، إلا القول ضمنا أو صراحة، إن الفلسطينيين شعب يستحق أن يباد.