منذ عقد من الزمن، أصبحت الكمبوندات في مصر ظاهرة فريدة، فخلال سنوات قليلة، أصبحت مصر بها أكثر من 1000 كمبوند، يعيش فيها الملايين خلف أسوار وأسيجة، فماذا عن تلك الظاهرة؟ وما هي أبرز أشكالها؟ وكيف توزع جغرافيا؟ وما هي طبيعة سكانها؟ وهل نحتاج لتنظيم لها؟
الظاهرة بدت ملفتة للنظر بشكل غريب من واقع الإعلانات الدائمة في قنوات التلفزيون عن حجوزات الشراء، الإعلانات تحث الناس على اغتنام الفرصة، أو السعي للاستثمار بدلا من ادخار المال في شهادات البنوك، وذلك كله جزء من تداعيات أزمتنا الاقتصادية التي ابتلينا بها في السنوات القليلة الماضية، على خلفية الركض خلف روشتة صندوق النقد الدولي بعد تفاقم الدين الخارجي؛ بسبب سفة الإنفاق وعدم الالتفات للأولويات.
في واحد من أهم سمات تلك الظاهرة البحث في المكان، والمكان في مصر، كما قال المفكر المصري الراحل د. جمال حمدان، يدل على المكانة، من هنا يتبين إننا أمام مواقع عقارية كثيرة، يرصد أحدها وجود 1407 كمبوندات في مصر، منها مناطق سياحية في الساحل الشمالي، لكن المستخدم لغرض السكن، أو الإقامة غالبيته العظمى بالقاهرة بعدد، يصل إلى نحو 743 كمبوند، بالعاصمة الإدارية وحدها 314 كمبوند، أما الباقي؛ فأغلبه في القاهرة الجديدة. أما الجيزة فكان نصيبها 279 كمبوند، أغلبها بمدينة 6 أكتوبر.
في البداية، كان القائمون على تأسيس تلك الكمبوندات رجال أعمال وشركات مقاولات، اليوم أصبحت الدولة تقوم بالتأسيس. فوزارة الإسكان من خلال، ما يسمى سليلة كمبوندات دار مصر هي مشاركة في هذه الظاهرة، وكذلك أصبح الجيش والشرطة مشاركين فيها.
في تصنيف التسليم، فبعض من تلك الكمبوندات كامل التشطيب، وبعضه نصف تشطيب وبعضه الآخر مجرد جدران، والسداد بالتقسيط مع مقدم الثمن، أو الدفع فوري بكامل القيمة، مع وديعة صيانة في جميع الأحوال.
الأكثر أهمية هو تصنيف السكان، فالملاحظ من تتبع الشرائح الطبقية، وكما تقول الخبيرة المتميزة أستاذ العلوم السياسية د. أماني قنديل، فإنها في الأغلب الأعم من طبقات المجتمع العليا. بالطبع كان للمال النفطي العامل الأكبر في الاستحواذ على النسبة الغالبة من تلك الوحدات، كما كان هناك للقائمين على الأنشطة الاقتصادية الخاصة ذات الطابع التجاري، والمالي نصيب معتبر من التواجد بتلك الكمبوندات كسكان أو كتجار بالمولات المرفقة بها. أما النسبة الأقل من تلك الكمبوندات، فكانت من نصيب المؤسسات المهنية كالنقابات والجمعيات الأهلية وغيرها. بالطبع كان هناك درجة من التداخل، بمعنى أنه كان هناك ممن ينتمون إلى نقابات وجمعيات وعاملين بالخارج في نفس الوقت. المهم في ذلك كله، أن الشريحة الاجتماعية المرتبطة بالمال ومستوى الدخل المرتفع هم من يحوذون على تلك الوحدات.
مما سبق، يتبين أن التفاوت الطبقي كان هو العنوان والعلامة الأبرز في تأسيس الكمبوندات، وهذا التفاوت لم يكن بين فئتين، فئة من داخل الكمبوند وفئة من خارجه، بل أنه كان في بعض الأحيان بين فئتين من داخل الكمبوند الواحد، بين مشتري الشقق بالعمارات السكنية ومشترى الفيلات، أو بين ساكن عسكري وآخر مدني على خلفية بيع حصة، أو جزء من بعض الكمبوندات التي بناها الجيش لمدنيين. وربما كان هناك نوع ثالث من التفاوت الطبقي، وهو بين سكان كمبوند بعينه وسكان كمبوند أكثر تميزا، من حيث الموقع وفئة المشترين ومستوى الفخامة والتصميم وغيرها من أمور. بطبيعة الحال الناس دائما درجات، هكذا خلقوا، لكن المشكلة في البلدان النامية ومنها مصر، أن كافة المعاملات والأمور الخاصة بالشؤون الاجتماعية والاقتصادية، وربما السياسية مرتبطة عادة بفئة وطبيعة، ومكانة من هم يفترض أنهم يقعوا تحت طائلة القانون بشكل متساو، دون تحيز؛ بسبب المال أو الطبقة أو الجاه أو الوظيفة أو العمل، وغيرها من منافذ السطوة الاجتماعية.
مما لا شك فيه، أن أحد أبرز الحجج للهروب إلى الأسوار والأسياج من قبل البعض، يرجع للرغبة في الهدوء والأمان والمساحات الخضراء والمسطحات المائية والمرافق الأكثر جودة والمولات، وغيرها من مظاهر الترفيه، لكن هذا أن صح فهو يدل، على أن الناس تفتقد لمثل تلك المظاهر خارج الأسياج التي يضعون أنفسهم بداخلها. ففي الخارج يفتقد المجتمع في بعض الأحيان لكافة وسائل الراحة والأمان، وغيرها من الأمور التي فر من أجلها الناس داخل الأسوار.
على أنه مع استشراء ظاهرة الكمبوندات بشكل مبالغ فيه، وغير مناسب مع حالة العوز التي وصلت لحد عيش 37.5% من المجتمع أي أكثر من الثلث تحت خط الفقر؛ بسبب سياسات السلطة التي أطلقت يد المحتكرين واستدانت- ولا تزال- من كل حدب وصوب، وسعت للاستثمار في الحجر لا البشر، (مع كل ذلك)، فإن الكمبوندات بدأت تفقد رونقها في بعض الأماكن. فالتلوث السمعى والبصري، والفوضى في التعامل داخل بعض من تلك الكمبوندات تحت دعاوى الحرية، والخروج عن المألوف، فيما يتعلق بالمظهر الحضاري والتخطيط العمراني المواكب لقيام البعض بتعلية المباني في غيبة القانون، أو بسبب الرشى المالية لموظفي الأحياء والمدن، كل ذلك جعل الكمبوندات قد بدأ يضمحل الغرض الطبقي منها، إن جاز التعبير، حتى أن نفرا من الناس قد همس في أذن كاتب تلك المقال، بأن بعض الناس قد أتوا هم وأولادهم إلى الكمبوندات بثقافتهم القديمة، وهم يصرون على تغيير من هم بداخل الكمبوندات وجذبهم نحوها، وليس العكس. المؤكد أن واحدا من أكثر المثالب التي أصبحت ترى رأي العين في الكثير من الكمبوندات اليوم، ما أفقدها سماتها، هي انتشار الجريمة، والتي تبدأ بعقر الكلاب الخاصة للسكان والمارة، كما حدث في كمبوندات بالشيخ زايد بأكتوبر، ودار مصر بالتجمع الخامس في مارس وإبريل 2023 على التوالي، وتنتهي بجرائم القتل العمد، كما حدث في الرحاب أعوام 2018 و2020 و2022 و2023، ومدينتي في يوليو 2023، والشيخ زايد بأكتوبر في فبراير 2024، وكمبوند سوديك في مايو2023… إلخ.
مقابل كل ذلك، فإن كثيرين آخرين يعزفون عن العيش داخل الأسوار، فهؤلاء يعتبروا أن الهدوء والراحة، وحتى الوجاهة، يمكن وجودها خارج الأسوار، وهؤلاء عادة ينظروا إلى المشاكل الجديدة بالتجمعات داخل الأسيجة، وما يرتبط بها أحيانا من تأمين، وتقنين للمخالفات البنائية، وهي المخالفات التي ربما لا يستطيع هؤلاء، أن يقوموا بها لو سكنوا خارج الأسوار. أيضا فإن المشكلات المرتبطة بالصيانة المشتركة للمباني داخل الكمبوندات، والأمور المتصلة بالتنسيق الحضاري، والمرافق وغيرها، يعتبرها كثيرون من السكان خارج الأسوار من الأسباب التي تعكر دوما صفوا الجيران داخل الكمبوند، وهذه الأمور عادة لا يوجد نظير لها– على الأقل بذات الدرجة والحدة- في المناطق الراقية خارج الأسوار.
المهم من جراء كل ذلك، إن مجتمع الكمبوندات، ومع كثرة الظاهرة، أصبح مجتمع يحتاج إلى تنظيم قانوني محكم، سواء فيما يتصل بالعلاقة بين السكان، أو العلاقة بين السكان ومؤسسات الدولة أو بين الطرفين من جهة وبين القائمين على الخدمات والمرافق التجارية والإدارية داخله. لقد نظم القانون رقم 119 لسنة 2008؛ بشأن قانون البناء كافة الأمور المتعلقة باشتراطات البناء، والتصالح والتخطيط العمراني وتنظيم اتحادات الشاغلين والصيانة، وتنظيم شؤون العقارات والتنسيق الحضاري. لكن هذا القانون لم يكن؛ ليخطر ببال الشارع وقت سنه، أنه ستكون هناك ظاهرة جديدة هي ظاهرة الكمبوندات التي استشرت، ولا زالت بشكل كبير، ما يجعلها بحاجة إلى تنظيم. لقد أحسنت بعض الكمبوندات في خلق لوائح عمل تنظيمية تخصها، لتنظيم العلاقة فيما بين أركانها، لكن تلك اللوائح على أهميتها في ظل غياب تنظيم قانوني عام، ستظل مجرد مقترحات أو توصيات، ربما تكون غير ملزمة، لا سيما، وأنها قد تتضارب مع نصوص القانون، أو تتباين من كمبوند لآخر، ما يجعل هناك حاجة سريعة؛ لوضع تشريع يخص تلك الكيانات، أو تعديل قانون البناء؛ ليشتمل على معالجة أوضاع هذه الكيانات التي لم تعد وليدة.