في ديسمبر 2022، كتبت مقالًا* بعدما أُلقي القبض على مؤسس بورصة العملات المُشَفَرَة “سامويل بانكمان فرايد” في جزر الباهاماز التي يلجأ إليها لصوص العالم؛ لإخفاء أموالهم غير الشرعية؛ أو لِكَي يتواروا شخصيًا عن أنظار السلطات الدولية، أو للغرضين معًا. وأوضحت في هذا المقال تفاصيل الألاعيب التي انتهجها الفتى المعجزة والآثار المُدمرة لها سواء على المستوى الفردي، أو على المستوى القومي، أو حتى على المستوى الدولي. بمقتضى تلك التفاصيل، خَضَعَ الفتى الذي كان يبلغ من العمر حينها ثلاثون عامًا، لتحقيقات امتدت لعامٍ ونيف، إلى أن حانت اللحظة.

الخميس، 28 مارس 2024، الساعة التاسعة والأربعون دقيقة صباحًا، قاعة محكمة مانهاتن.. “إنه عبقري الرياضيات الذي سعى للسلطة والنفوذ من خلال ارتكاب جرائم ومخالفات مع علمه بها؛ ليعود فيرتكب مزيدًا من الجرائم، بأن قَد شَهد زورًا، وحَنَثَ باليمين لعدة مرات أثناء التحقيقات، كما أنه لم يُبدِ ندمًا على ما فعل. يُعَاقَب بالسجن لمدة 25 عامًا، وبغرامة تبلغ 11 مليار دولار”. هكذا نطق القاضي لويس كابلان، بالحُكم الذي بدا مُخَفَفًا لدى البعض، إذ كان داميان ويليامز، المُدعي الفيدرالي لمنطقة جنوب نيويورك، يطالب بحبسه لمدة، تتراوح ما بين 40 إلى 50 عامًا، علمًا بأن الحد الأقصى من سنين الحبس كعقوبة على الجرائم التي اقترفها بانكمان، وفقًا القانون الأمريكي تصل إلى 100 عام. أما فيما يتعلق بمبلغ الغرامة، فقد تم تقديره مقابل الخسائر التي أصابت المستثمرين والمُقرِضين والعملاء بالشركة، وهي 1.7 مليار دولار، و1.3 مليار دولار، و8 مليارات دولار على التوالي. كانت الاتهامات السَبْعة الموجهة للفتى المعجزة، والتي ثبتت بحقه وفقًا للتحقيقات، وحسبما قررت هيئة المحلفين في نوفمبر الماضي هي: اضطلاعه بجريمتين للاحتيال الإلكتروني، وجريمتين بالتآمر للاحتيال الإلكتروني، وجريمة واحدة بالاحتيال في الأوراق المالية، وجريمة واحدة بالاحتيال في السلع الأساسية، وجريمة واحدة بالتآمر لغسل الأموال.

خلال التحقيقات، أقَرَّ جميع المديرين التنفيذيين الرئيسيين في إمبراطورية الفتى المعجزة، وهي شركة بورصة العملات المُشَفَرَة(FTX)، بالذنب في تهم مختلفة، وتعاونوا مع الحكومة للشهادة ضدَّ بانكمان، مما ساعد على تثبيت الاتهامات السَبْع بِحَقِه. كان من ضمن هؤلاء المديرين كارولين أليسون، الرئيسة التنفيذية السابق لشركة ألاميدا للأبحاث، وصديقة بانكمان المُقربة، وجاري وانج، المؤسس المشارك لشركة FTX، ونيشاد سينج، الرئيس الهندسي السابق لشركة FTX. في المقابل، بَنَى بانكمان، الذي يعمل أبوه أستاذًا جامعيًا للقانون، استراتيجية دفاعه على نفي جميع التهم التي وُجِهَت إليه واصفًا انهيار شركة FTX في نوفمبر 2022، بأنه “سلسلة من الأخطاء الكبيرة” التي لا علاقة له بها، وحاول أن ينأى بنفسه عن أية قرارات كارثية، سواء تمت بشكل مباشر، أو كانت مرتبطة بالعلاقة بين الشركتين FTX، وألاميدا، كما ألقى باللائمة على شَريكِهِ جاري وانج، لسَمَاحِهِ لشركة ألاميدا بالتداول نيابة عن الآخرين، وهو أمر لا يجيزه القانون لهذا النوع من الشركات، مُلقيًا بالمسئولية على صديقته المُقربة كارولين أليسون، لعدم إيلائها عناية كافية لإدارة المخاطر. لم تفلح تلك الاستراتيجية في التأثير على القاضي، ولا على هيئة المحلفين، ولا على المُدعي الفيدرالي الذي وصف جرائم الفتى المعجزة ذات مرة، بأنها من أكبر عمليات الاحتيال المالي في التاريخ الأمريكي كمُخطط بمليارات الدولارات، يهدف إلى جعلِ بانكمان مَلِك العملات المُشَفَرَة.

أشارت وثائق الاتهام، إلى أن كل من شركتي FTX، وشركة ألاميدا للأبحاث، وهما شركتان مُستقلتان “ورقيًا”، كانتا تُدَارَان من قِبَلِ نفس الأشخاص، بل ومن نفس المكتب، بما يشير إلى تضارب المصالح، وتداخلها بين أنشطة الأبحاث والتداول وصانع السوق وأمين الحفظ. وقد وَرَدَ بتلك الوثائق، أن أموال وأصول العملاء قد جرى دمجها في جريمة كلاسيكية شديدة السذاجة، (الوصف من عند كاتب هذه السطور)، مع أموال وأصول الشركة؛ ليتم إنفاقها بإهمال متهور  Reckless Abandon على شراء عقارات بجزر البهاماز، واستثمارات يديرها أصدقاء شخصيون للشركاء في FTX، وألاميدا للإبحاث. جاء أيضًا بتلك الوثائق، أن الموظفين قد قاموا بتعدي الخطوط الفاصلة، بين ما هو شخصي، وما هو مهني، حيث عملت كارولين إليسون الصديقة الشخصية لبانكمان، كواحدة من كبار مساعديه في العمل. كانت كارولين قد اعترفت للسلطات، بأن علاقتهما المضطربة Tumultuous Relationship قد ساهمت في الخلل الوظيفي بالشركة، وأدت بها إلى المشاركة في أعمال الاحتيال. بالإضافة إلى ما سبق، فقد جاء بالتحقيقات، أن الفتى المعجزة كان قد ساهم بصورة غير شرعية، في تمويل الحملات الرئاسية والنيابية الأخيرة بالولايات المتحدة الأمريكية لشراء ولاء أعضاء من الكونجرس من الحِزبَين الديمقراطي والجمهوري بصفتهم صانعي القوانين، حتى يقوموا بتعطيل إقرار مشروعات القوانين المُنَظِمة لأعمال العملات المُشَفَرَة.

انتهت أسطورة الفتى المعجزة عبقري الرياضيات، ولم تنته خرافة الأموال المُشَفَرة، حيث تم تداول وحدة البيتكوين عَقِب صدور الحكم على مخترعها سامويل بانكمان فرايد، بسعر 67,000 دولار، بينما كان سعرها قد وصل مؤخرًا إلى مستوى قياسي، بلغ 74,000 دولار. ستستمر الأسواق الأمريكية في تداول الوهم، فما زال الاقتصاد المالي هو أساس تلك الأسواق، وسبب هشاشتها، حيث المال الذي يلِد مالًا، فما بالك وقد صار هذا المال يتحرك في سياقات، لا رقابة عليها وسط فساد مُستَشرٍ يُؤطِره المُشَرِّعون الأمريكيون.

 *بيتٌ من ورق – أسرارٌ أمريكية بين المال والسياسة