عندما تأسست الدولة المصرية الحديثة في النصف الأول من القرن التاسع عشر، كانت روح التاريخ مسكونة بثلاثة حوافز كبرى: حافز بناء الإمبراطوريات، حافز الاستعمار والتوسع، حافز القيادة العظمى والملهمة. وكان محمد علي باشا – بالغريزة السياسية العميقة- على وعي بالحقائق الثلاث، كما كان يملك- بطبيعة تكوينه- روح المبادرة وبناء القدرات التي تسمح له بتجريب نفسه كقيادة سياسية عظمى، تبني إمبراطورية، وتزاول مهمات الاستعمار غزواً، وفتحاً وغنيمةً ونهباً.
كان يعرف- بالسليقة- كيف يصل إلى السلطة، أي كيف ينتزعها من أيادي ومخالب كثيرة متصارعة ومتنافسة عليها، ثم كيف يحتفظ بها مدى الحياة في مناخ سياسي إقليمي ودولي مضطرب، كم تعثرت فيه أقدام، وكم سقطت فيه مطامح وأحلام، وكان أعظم من ظهر، ثم انتصر، ثم تلقب بلقب إمبراطور- على النموذج الروماني- هو نابليون بونابرت الذي كان محمد علي باشا، يتبارك ويتفاءل ويتباهى، أنه مولود معه في عام واحد، مثلما كان يتفاخر أنه مولود، حيث ولد الإسكندر الأكبر ذاته.
في ص 59 من الجزء الأول من كتاب “الإمبراطورية المصرية في عهد محمد علي، والمسألة الشرقية 1811- 1839م”، لمؤلفه الدكتور محمد صبري السوربوني 1894- 1878م، نقرأ هذا الوصف الموجز لشخصية محمد علي باشا: “لقد كان ثعلباً أحياناً، وكان أسداً على الدوام، استخدم المماليك؛ للتخلص من العثمانيين، ثم تخلص من المماليك على يد الجنود الألبان الأرناؤوط، ثم استخدم المصريين في التخلص من الألبان، (ثم تخلص من المصريين)، كسب إعجاب أربعة ولاة عثمانيين، ثم دمرهم جميعاً، ولم يتورع عن الجلوس على العرش بعدهم”. بهذه الصفات وصل محمد علي باشا إلى السلطة، ثم بمزيج مدهش من الخداع والذراع وعلو الهمة وشدة البأس، عاش في الحكم قريباً من نصف قرن، هو الأخطر ليس في تاريخ مصر الحديث فقط، لكن في تاريخ الشرق الأوسط بأكمله، فمثلما اصطبغ القرن العشرون في الشرق الأوسط، بما يسمى وعد بلفور في الثاني من نوفمبر 1917م، فقبله اصطبغ القرن التاسع عشر بوصول محمد علي باشا لحكم مصر، وبقائه على العرش قريباً من نصف قرن. محمد علي باشا كان من البُناة الكبار في التاريخ، أو قل هو غريزة التاريخ ذاتها، وقد تلبست في إنسان، لم يكن يتورع عن وسيلة في سبيل الغاية، لكنه كان عالي الهمة، عظيم النفس، لم يكن وضيعاً، ولا واطياً، ولا شهوانياً، ولا تافهاً، ولا غضوباً، ولا عجولاً، ولم تكن للحماقة عليه من سلطان، كان يعرف حدود العقل، كان يلزم أصول العرف، كان مهيباً جليلاً، بلا ابتذال ولا تسفل، كان يناور ويكسب، وكان يحارب وينتصر، لم يكن حامل ضغائن، ولا ينطوي على أحقاد شخصية، فقط كان يزيل- دون رحمة- ما يعترض سلطته من عوائق، وما يهدد بقاءه من مخاطر، دون التفات إلى صغائر الأمور. هو الحاكم الوحيد- في الدولة الحديثة- الذي لم ينهزم في حرب، باستثناء نوارين البحرية، حيث اجتمعت على أسطوله أساطيل ثلاث امبراطوريات أوروبية، كانت هي الأعظم في ذلك التاريخ. كان- ومثله نجله الأكبر القائد إبراهيم- يعيش حياة شخصيةً بسيطة، دون ترف ولا سرف ولا فشخرة ولا استعراض، ولا منظرة. استقامة بناة الدول، جدية كبار القادة، طبع العظماء المنشغلين بعظائم المسائل، بما لا يدع لهم بالاً ولا طاقة ولا وقتاً؛ لتفاهة الأطفال أو سطحية غير الناضجين من الرجال.
مثلهما كان الرئيس جمال عبد الناصر، صحيح أنه لم يكسب أي حرب، وصحيح أنه مات وعدوه على الجانب الشرقي من قناة السويس، بعكس الباشا الذي زاد من مساحة مصر عشر أمثالها، لكنه كان مثلهما في الحياة البسيطة، لم تختلف حياته، وهو رئيس عن حياته قبلها، لم يسرف، لم يبذ ، لم يطمع في حياة الفشخرة والمنظرة والمظهرة، كان منيع النفس أمام المغريات التي ينحني لها غيره من القادة، عاش عبد الناصر، ومات عيشة أبويه كمصري بسيط من الشرائج الدنيا في الطبقات الوسيطة، وهي الشرائح التي جاء منها خلفاؤه من الرؤساء، غير أنه تفرد بالزهد حد الكفاف، والتزم العفاف عن المال العام، فلم يغترف، ولم يقترف، فقط أكل بالمعروف، كما يأكل أوساط المصريين. لقد استهوى الرؤساء من بعده تراث الخديوية التي أعقبت عهد الباشا، ونجله القائد إبراهيم. خديوية مختلفة الأشكال حسب الطبع الشخصي لكل رئيس، خديوية تعقب خديوية، وكل خديوية تأخذ مصر مسافات بعيدة إلى الخلف، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، انحدار يتوالى ولا يتوقف.
لم يغفل محمد علي باشا عن حقيقة، أن قرار توليته يلزم أن يعتمده السلطان العثماني، وصحيح أنه دخل في عشر سنوات كاملة من الحرب المسلحة 1929م- 1939م، ضد السلطنة العثمانية، واقتطع منها الشام وبعض الأناضول لفترة عشر سنوات، لكنه كان على بصيرة، أن الاحتفاظ بما شاده من إمبراطورية، مستحيل أن يقبل به نادي الإمبراطوريات القائمة، ثم كان على وعي، أن ضمان مستقبل ذريته من بعده يلزمه أن يعود من جديد إلى الامتثال للسلطان العثماني، فجرت بينهما مصالحة، وتم ترقية درجته العثمانية إلى والٍ بدرجة صدر أعظم (درجة رئيس وزراء)، بما يكفي لإثبات أوبته إلى الحظيرة العثمانية. الخديو إسماعيل- مؤسس الخديوية القديمة، وملهم الخديوية الجديدة- لم يكن على وعي بذلك، لم يدرك أن انجازاته في مقابل ديون، وأن الديون سوف تفرض عليه إرادة الدائنين، عاش كأنه إمبراطور أوروبي، وكأن مصر قطعة من أوروبا، لم يقف عند حقيقة، أن قرار تعيينه فرمان عثماني، وقرار تغيير لقبه إلى خديوي فرمان عثماني، وقرار تغيير نظام التوريث من أرشد الذكور من ذرية محمد علي باشا، إلى الأكبر من أنجال إسماعيل، ولم يدرك أن كل تلك القرارات كانت برشاوى وإتاوات وهدايا، يدفعها- من دم المصريين- للسلطان الفاسد، وحاشيته الأكثر فساداً، لم يدرك الخديوي، أن أوهام الإمبراطورية التي تعشش في دماغه ليست غير بناء من ورق، حتى قرر الأوربيون عزله، ولم يمانع السلطان العثماني، فالخديوي ذاته، والسلطان بجلال قدره، لم يكن أي منهما يملك قراره، كان قرارهما، بل ومصيرهما في يد أوروبا.
مثلما ألف الدكتور محمد صبري السوربوني كتاباً ضخماً من مجلدين عما أسماه “الإمبراطورية المصرية في عهد محمد علي باشا”، فإنه كذلك، ألف كتاباً مماثلاً من مجلدين، عما أسماه “الإمبراطورية المصرية في عهد إسماعيل، والتدخل الأنجلو- فرنسي 1863 – 1879 م”، ومن عناوين الكتب، ومن تكرار كلمة “إمبراطورية”، ندرك تسرب روح العظمة الإمبراطورية الاستعمارية الأوروبية إلى تلافيف عقل وروح وبناء الدولة المصرية الوليدة، عظمة على غير أساس كاف في عهد الباشا، ثم عظمة ليست أكثر من نفخة كذابة في عهد ورثته، وبالذات في عهد الخديو إسماعيل، غياب الأساس الصلبة الكافية لمجد الباشا، حرمته من انتصاراته في جزيرة العرب واليمن والشام، لكنها احتفظت له بمصر والسودان كمكافأة نهاية خدمة، نعم مكافأة نهاية خدمة، موظف عثماني يحكم مصر، ثم يغزو ما حولها، حتى يهدد السلطنة ذاتها، ثم تتوافق الإمبراطوريات القائمة على كسره مع مكافأته عن أتعابه في التاريخ بتملك وادي النيل ملكية رقبة له ولذريته من بعده، يتوارثونها فيما بينهم، كما يتوارث الأبناء والأحفاء تركات الآباء والأجداد. لم يدرك إسماعيل شيء من ذلك، غابت عنه غريزة التاريخ، فاتخذ من التاريخ درساً وعبرة، هذا الدرس هو: لا يبقى في حكم مصر الحديثة إلا من نرضى عنه، ونتوافق على بقائه في الحكم، قاعدة مستقرة ومستمرة، لم تنقطع، ولم تتخلف عن العمل، لم ينخلع، ولم ينعزل حاكم عن حكم مصر، إلا إذا كان للغرب الأوروبي، ثم الأمريكي هوى في ذلك، الوحيد الذي تعسر عليهم، واستعصى خلعه، كان الرئيس جمال عبد الناصر، ربما لأنه الرئيس الوحيد الذي عاش ومات قريباً من الناس محبوباً من الشعب، وكان الشعب مستعداً؛ ليغفر له أخطاءه وخطاياه التي ما زالت مصر تدفع ثمنها، حتى اليوم والغد.
رغم كفاح المصريين؛ من أجل حقوق المواطنة؛ وحكم الدستور والقانون، وتقييد سلطات الحكام، والسعي الذي لا ينقطع؛ لتمكين سيادة الشعب بإخضاع الحكام للمساءلة والمحاسبة، رغم ذلك إلا أن تراث القرن التاسع عشر لا يزال يعشش في أدمغة آلة الحكم وبنيتها العميقة، وهم الإمبراطورية بدون إمبراطورية، فلم تكن هناك إمبراطورية حقيقية في أي عهد. ثم روح الاستعمار، دون توسع في الإقليم، واقتصار روح الاستعمار على نظرة الحكم إلى المحكومين، ولا فرق في هذه النظرة بين عهد وعهد، فالروح الاستعمارية من السلطة تجاه الشعب طبع موروث كامن في بنية الدولة وهياكلها. ثم توهم القيادة في نفسها العظمة والعلو والنفخة الكذابة، فكل حاكم يستصغر في نفسه، كل الحكام الذين سبقوه من أولهم إلى آخرهم، وكل حاكم لا يتخيل، أن يعقبه في حكم مصر من بعده، كل حاكم يصدق نفسه، أن خاتم المرسلين إلى عرش مصر، يحدث هذا بين حكام مصر، رغم أن الأنبياء والمرسلين من الله لهداية الإنسانية، كان كل منهم حريصاً على تبيان، أنه حلقة في سلسلة النبوة والرسالات يعترف بمن قبله، ويشيد به ويكمل ما بدأه، ويبني عليه ويستأنف من بعده، حتى وصلت إلى خاتمتهم حضرة سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام الذي كان يبين، أنه مجرد لبنة واحدة أخيرة في بناء متكامل، استغرق بناؤه آماداً بعيدة وأحقاباً متوالية.
هذا التراث الخديوي الإمبراطوري الوهمي، جعل من استبداد القرن التاسع عشر، وحكمه المطلق شبحاً حاضراً في السياسة المصرية، شبحاً أجهض نضالات المصريين؛ لأجل الظفر بحاكم مواطن لا بحاكم إمبراطور، حاكم مواطن، ينتخبه مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، يحكم بالدستور والقانون، ويترك الحكم فور انتهاء ولايته الدستورية. مصر المعاصرة التي نعيشها- وقت كتابة هذه السطور- تعيش حالة من تراجع الفكر السياسي، وتدهور الممارسة السياسية، ليس فقط لوجود أشباح الخديوية الموروثة من القرن التاسع عشر، لكن لعودة فكرة الحكم بالحق الإلهي، وأن حكم مصر هبة إلهية من الله، وليس استحقاقاً دستوريا للشعب، يمارس فيه إرادته الحرة في اختيار، من يحكمونه وفي تقرير مصيره، وفي التحرر من ادعاء الحكام، أنهم يحكمون بإرادة الله لا بإرادة الشعب.