مع “الطوفان”؛ تبلور الاتجاه التاريخي المتصاعد، بأنّ القضية الفلسطينية لم تعد قضية العرب ولا المسلمين الأولى، بالرغم مما أظهرته استطلاعات الرأي من تعاطف شعوب المنطقة العربية ومساندتهم لها. هي مساندة تبدو- حتى الآن- ضعيفة، وبلا فاعلية، في حين يظهر تحولٌ كبيرٌ لدى قطاعات من الرأي العام العالمي– خاصةً في الغرب– تجاه القضية، بالإضافة إلى مساندة كثير من دول الجنوب، مما يمكن معه القول: إنّ القضية الفلسطينية صارت قضية الفلسطينيين أولًا: وقضية من يعاني في العالم الآن.

هذا التحول سيكون له تداعيات استراتيجية كبيرة في المستقبل القريب، خاصةً بعد أن تحولت الحرب على غزة إلى مرآة، تعكس مجمل الأزمات التي تعاني منها قطاعات متّسعة من البشر في كوكبنا، مما يمكن معه القول، إن القوى والحركات التي تساند الفلسطينيين، ضد حرب الإبادة يرون فيها– كلٌ من زاويته- معاناتهم الذاتية.

لكن كيف يتمثل هذا المسار التاريخي في علاقة الفلسطينيين بمصر الرسمية- خاصة بعد السابع من أكتوبر /تشرين أول؟

ست حقائق أظهرها استطلاع رأي https://pcpsr.org/ar/node/970

قام به المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في الضفة الغربية وقطاع غزة، في الفترة ما بين 5- 10 آذار (مارس) 2024-أي بعد خمسة أشهر من اندلاع الطوفان:

الأولى: لن يبحثوا عن الأمان في مصر:

ربع سكان قطاع غزة فقط، يعتقدون أن عملية برية إسرائيلية في رفح ستؤدي إلى اندفاع جماعي للناس، والنازحين تجاه الحدود مع مصر. 70٪ من سكان غزة، يقولون إنه حتى لو انهار الجدار الفاصل بين رفح ومصر؛ فإنهم لن يبحثوا عن الأمان في مصر. ولعل أحد أسباب الإحجام عن عبور الحدود هو ظن ما يقرب من 70٪ من سكان غزة، أن الجيش والشرطة المصريين سيطلقون النار على أولئك الذين يعبرون الحدود.

الثانية: استمرار سيطرة حماس على غزة:

في حين تعتقد نسبة أقل من سكان الضفة الغربية اليوم، مقارنة بالوضع قبل ثلاثة أشهر- حيث أجرى المركز استطلاعه السابق، أن قطاع غزة سيبقى تحت سيطرة حماس، يعتقد المزيد من سكان غزة الآن، أن حماس ستكون هي القوة الحاكمة في المستقبل. ما يقارب من 60 ٪ يعتقدون ذلك.

وعند سؤالهم عن السيطرة التي يفضلونها، نجد ارتفاعا في نسبة تأييد سكان غزة؛ لاستمرار حكم حماس على القطاع إلى أكثر من 50٪، أي بزيادة قدرها 14 نقطة مئوية، مقارنة بالثلاثة أشهر السابقة.

تبقى نسبة الرضا عن حماس، ويحيى السنوار عالية جدا. وعلى النقيض من ذلك، لا يزال الرضا عن حركة فتح، والرئيس عباس منخفضة جدا.

سئل المشاركون في هذا الاستطلاع من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، عن رأيهم في قرار حماس بشن هجوم 7 أكتوبر، هل كان صائبا أم غير صائب؟ قالت الغالبية العظمى (71٪)، مقارنة ب 72٪ في كانون أول (ديسمبر) 2023، إنه كان قرارا صائبا. على الرغم من استقرار هذه الإجابة الإجمالية، فإن النتائج تظهر تغيرا مهما عند النظر في مواقف سكان المنطقتين الفلسطينيتين بشكل منفصل. ينخفض النظر إلى صواب قرار الهجوم في الضفة الغربية بمقدار 11 نقطة مئوية، ويرتفع في قطاع غزة بمقدار 14 نقطة مئوية.

إن استمرار وثبات التأييد لهجوم حماس يمكن تفسيره- جزئيا- بالنتائج المتعلقة بالسؤال حول التداعيات السياسية والدبلوماسية لهذا الهجوم والرد الإسرائيلي عليه. سئل الجمهور، عما إذا كان يعتقد أن الحرب على غزة، منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) قد “أحيت الاهتمام الدولي بالصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، وأنها قد تؤدي إلى زيادة الاعتراف بالدولة الفلسطينية”. أجاب ثلاثة أرباعهم: “نعم”، وقالت نسبة من 22٪ فقط “لا”.

الثالثة: ارتفاع عدم الرضا عن الأداء المصري:

على المستوى الإقليمي، ازداد الرضا عن اليمن وقطر، بينما ظل الرضا عن إيران والأردن ومصر منخفضا. بل إن الرضا عن مصر على وجه الخصوص قد انخفض- مقارنة بالثلاثة شهور السابقة- بمقدار النصف في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة.

أما بالنسبة للجهات العربية/ الإقليمية الفاعلة، فقد ذهبت أعلى نسبة رضا إلى اليمن، حيث تبلغ اليوم 83٪ (88٪ في الضفة الغربية، و75٪ في قطاع غزة)، تتبعها قطر (56٪)، ثم حزب الله (48٪)، ثم إيران (30٪)، ثم الأردن (22٪)، ثم مصر (12٪).

من الملفت، أن مصر هي الدولة العربية والإقليمية الوحيدة التي فقدت رضا الفلسطينيين في كلتا المنطقتين، الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث انخفضت الى النصف؛ لتبلغ 12٪ في المجموع، و5٪ في الضفة الغربية و23٪ في قطاع غزة.

الرابعة: السلطة الفلسطينية عبء، ولا يمكن إصلاحها:

لا يزال ثلثا الجمهور يعتقدون، أن السلطة الفلسطينية عبء على الشعب الفلسطيني، وتقول الأغلبية، إنها تؤيد حلها.

تعتقد أغلبية من 65٪ (مقارنة مع 68٪ قبل ثلاثة أشهر)، أن السلطة الفلسطينية قد أصبحت عبئا على الشعب الفلسطيني، و27٪ فقط (مقارنة مع 28٪ قبل ثلاثة أشهر) يعتقدون، إنها إنجاز للشعب الفلسطيني. قبل ستة أشهر، قالت نسبة من 62٪، إن السلطة عبء، وقالت نسبة من 35٪، أنها إنجاز.

نسبة الرضا عن أداء الرئيس عباس، تبلغ 16٪، ونسبة عدم الرضا 81٪.

هل يمكن للسياسة أن تحيي العظام وهي رميم؟

تقول نسبة من 84 %، إنها تريد استقالة الرئيس، فيما تقول نسبة من 14٪، إنها تريد من الرئيس البقاء في منصبه. تبلغ نسبة المطالبة باستقالة الرئيس اليوم 93٪ في الضفة الغربية، و71٪ في قطاع غزة.

سئل الجمهور عن تقديره لمغزى استقالة حكومة رئيس الوزراء محمد أشتية: هل هي برأيه خطوة نحو إصلاح السلطة الفلسطينية؟ قالت أغلبية من 62٪، إنها ليست كذلك، وقالت نسبة من 30٪ فقط، إنها كذلك.

في أعقاب استقالة رئيس الوزراء أشتية، برز مرشحان، باعتبارهما الأكثر احتمالا من غيرهما، وهما محمد مصطفى، (حيث قالت وسائل الإعلام، إن الرئيس عباس يفضله)، وسلام فياض، (حيث قالت وسائل الإعلام، إن بعض المانحين الإقليميين والدوليين يفضلونه). سئل الجمهور أيا من الاثنين يفضل: 55٪، لم يفضلوا أيا منهما؛ 22٪، فضلوا فياض؛ و10٪ فضلوا مصطفى.

الخامسة: ترتيبات اليوم التالي:
بسؤال الجمهور، عما إذا كان مع أو ضد الخطة بعيدة المدى لليوم التالي، التي تقوم فيها الولايات المتحدة، وتحالف عربي، يضم مصر والسعودية والأردن بوضع تصور؛ لتعزيز وإصلاح السلطة الفلسطينية، والعودة إلى المفاوضات على أساس حل الدولتين، وتحقيق سلام وتطبيع عربي- إسرائيلي قال: حوالي ثلاثة أرباع الجمهور (73٪)، إنهم ضد هذه الخطة، فيما قالت نسبة من 23٪ فقط، إنها تدعمها. من الجدير بالذكر، أن نسبة التأييد لهذه الخطة بين سكان قطاع غزة أعلى، بكثير منها بين سكان الضفة الغربية (36٪ و14٪ على التوالي).

وعند السؤال عن الطرف الذي يفضل الجمهور، أن يسيطر على قطاع غزة بعد الحرب، قالت نسبة من 59٪ (64٪ في الضفة و52٪ في القطاع)، إنه حماس، واختارت نسبة من 13٪ السلطة الفلسطينية، بدون الرئيس عباس، واختارت نسبة من 11٪ عودة السلطة الفلسطينية تحت سيطرة الرئيس عباس، واختارت نسبة من 3٪ دولة عربية أو أكثر، واختارت نسبة من 1٪ فقط الأمم المتحدة، واختارت نسبة من 1٪ الجيش الإسرائيلي.

إن التغير في اختيارات سكان قطاع غزة تجاه تفضيل عودة حماس، بارتفاع قدره 14 نقطة مئوية اليوم، هو أحد أهم النتائج في الاستطلاع الحالي، وهو ما يحتاج إلى تفسير.

وفي سؤال آخر، تضمن تكهنات أو تقديرات تتعلق بالسيناريو الأكثر ترجيحا لليوم التالي للحرب، جاءت النتائج متطابقة تقريبا مع السؤال الذي طرح أعلاه، حيث قالت نسبة من 59٪، إن حماس ستعود للسيطرة على قطاع غزة. لكن على عكس السؤال الأول أعلاه، فإن 63٪ من سكان الضفة الغربية و52٪ فقط من سكان قطاع غزة توقعوا حدوث ذلك.

نسبة تفضيل عودة حماس تصل إلى 63٪، بزيادة قدرها 7 نقاط مئوية في قطاع غزة مقابل نقطتين فقط في الضفة الغربية.

في المقابل؛ توقعت نسبة من 11٪ عودة السلطة الفلسطينية بقيادة عباس، وتوقعت نسبة من 6٪، أن تقوم إسرائيل بتشكيل سلطات محلية، وتوقعت نسبة من 6٪، أن يتولى الجيش الإسرائيلي السيطرة، وتوقعت نسبة من 4٪ سيطرة القبائل والعائلات، وتوقعت نسبة من 4٪ تشكل مجموعات مسلحة متعددة.

السادسة: عدم جدية حل الدولتين مع استمرار تأييد المقاومة المسلحة:

تعتقد الغالبية العظمى من الجمهور الفلسطيني (83٪)، أن تصريحات الإدارة الأمريكية المتكررة حول التوصل؛ لحل الدولتين غير جادة، فيما تقول نسبة تبلغ 15٪ فقط (9٪ في الضفة الغربية و23٪ في القطاع)، إنها جادة.

عادة ما يكون تأييد حل الدولتين مرتبطا بتقييم الجمهور لواقعية أو إمكانية هذا الحل، وفرص قيام دولة فلسطينية. تقول نسبة من 61٪ (مقارنة مع 65٪ قبل ثلاثة أشهر)، إن حل الدولتين لم يعد عمليا؛ بسبب التوسع الاستيطاني، لكن نسبة من 37٪ (مقارنة مع 32٪ قبل ثلاثة أشهر)، تعتقد أنه لا يزال عمليا. قبل ستة أشهر، قالت نسبة من 71٪، إن حل الدولتين لم يعد عمليا؛ بسبب التوسع الاستيطاني. كذلك، تقول نسبة من 72٪، إن فرص قيام دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل خلال السنوات الخمس المقبلة ضئيلة أو منعدمة، وتقول نسبة من 27٪، إن الفرص متوسطة أو عالية.

وعند السؤال عن تأييد أو معارضة الجمهور؛ لإجراءات سياسية محددة لكسر الجمود، أيد 62٪ الانضمام إلى المزيد من المنظمات الدولية، وأيد 45٪ اللجوء لمقاومة شعبية غير مسلحة، وأيد 55٪ العودة للمواجهات والانتفاضة المسلحة، وأيد 58٪ حل السلطة الفلسطينية، وأيدت نسبة من 24٪ التخلي عن حل الدولتين، والمطالبة بدولة واحدة للفلسطينيين والإسرائيليين.

عرض على الجمهور ثلاثة طرق؛ لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وطلب منه اختيار أكثرها فاعلية: 46٪ (51٪ في الضفة الغربية و39٪ في القطاع)، اختاروا “العمل المسلح”؛ 25٪ (27٪ في الضفة الغربية و23٪ في القطاع) اختاروا المفاوضات؛ واختارت نسبة من 18٪ (12٪ في الضفة الغربية و27٪ في القطاع) المقاومة الشعبية السلمية.

في ضوء هذه الحقائق؛ هل يمكن للسياسة المصرية الرسمية، أن تصوغ توجهاتها وترسم أدوارها بمزيد من الإنصات لأصوات الفلسطينيين، حتى لا تفاجأ يوما ما بفك الارتباط بينهم وبينها- خاصة أن أدوارها في القضية الفلسطينية هو آخر ما تبقي لها من ميراث، أرجو ألا تتخلى عنه كما تخلت عن غيره؟