حلف الرئيس السيسي اليمين الدستورية أمام أعضاء مجلس النواب في العاصمة الإدارية الجديدة، معلنا بدء ولايته الثالثة والأخيرة التي تنتهي في ٢٠٣٠، وفق الدستور المصري المعدل.

صحيح أن الدستور سبق تعديله؛ ليمتد حكم الرئيس لولاية ثالثة بدلا من اثنتين، وأيضا امتدت فترتها من ٤ إلى ٦ سنوات، بما يعني إنه لا توجد حتى الآن ضمانة قاطعة، بأن الدستور لن يعدل مرة أخرى.

ومع ذلك يبقي نظريا وفق الدستور الحالي، أن ولاية الرئيس ستنتهي بعد ٦ سنوات، وسيصبح أمام تحديات اقتصادية وسياسية كثير منها متراكم، أو نتيجة السنوات العشرة الماضية.

والحقيقة أن التحدي الذي تواجهه مصر، هو تحدي اقتصادي وسياسي، فعلى المستوى الاقتصادي، شهدت البلاد تدهورا، أصاب دخول قطاع واسع من المصريين؛ بسبب التضخم وتراجع القوة الشرائية. ومع ذلك لم يناقش الحكم أسباب هذا التدهور، إنما أرجعه تارة إلى جائحة كورونا، وتارة أخرى إلى الحرب الروسية الأوكرانية، وأخيرا العدوان الإسرائيلي على غزة، وهي كلها أسباب أثرت على أداء الاقتصاد المصري، ولكنها لم تكن الوحيدة، وربما ليست الأساسية وفق تقديرات كثير من الاقتصاديين، حيث شكلَ سوء الأداء الداخلي، وإقامة مشاريع لا تمثل أولوية، وغير منتجة ولا تدر عائدا، الأسباب الأساسية، وفق هؤلاء الاقتصاديين.

والحقيقة أن النقد المتتالي لهذا الكم من الطرق والمحاور التي فاقت بكثير، ما تحتاجه البلاد، كما أن هذا الهوس بالأبراج الأكبر والأطول والأعرض وبالمساجد والكنائس الكبرى، حتى وصل إلى أكبر منبر وأكبر نجفة، مثل إهدارا حقيقيا للمال العام ولا زال مستمرا، بنفس الوتيرة، دون أي مراجعة أو تعديل في المسار.

يقينا، إن مبدأ الاستثمار في السياحة والعقارات والمدن الجديدة الساحلية وغير الساحلية مقبول، لو أحسن التخطيط له وفق منظومة متكاملة، تشجع على جوانب أخرى من الاستثمار، وعلى رأسها الصناعة والزراعة، لكن اختزال المشاريع في الاستثمار فقط في مدن جديدة، سواء كانت رأس الحكمة، أو أي رأس أخرى أو العاصمة الإدارية، سيمثل مشكلة حقيقية لاقتصاد أي بلد، سواء كان في مصر أو غيرها.

الاستثمار المنتج هو الذي تحتاجه مصر؛ لأنه بالقطع سيعني بناء منظومة جديدة، تحتاج كفاءة في الأداء وخططا علمية وتشريعات قانونية، تنفذ في الواقع وتشجع على الاستثمار والمنافسة الحرة.

دوران عجلة الإنتاج، وبحث مشكلات الصناعة والزراعة والمصانع المغلقة، والمستثمرين الذين “طفشوا” من السوق، وأغلقوا مصانعهم أو نقلوا استثماراتهم خارج البلاد، هو الذي سيخرج مصر من أزمتها، ويجعلها قادرة على حل مشاكلها الاقتصادية.

اختيار المدن الجديدة والعقارات كواجهة لاستثماراتنا الكبرى في هذه المرحلة بجانب عشرات الأبراج الضخمة والكباري والطرق، جرى في أغلبه تحت متابعة ورعاية القيادة السياسية العليا؛ فتجاوزت كثير من التعقيدات البيروقراطية والروتين، وهو ما جعل هناك استسهالا في إقامة هذه المشاريع؛ لأنها تمتلك حصانة عليا، أما الاستثمار في المجالات المنتجة الأكثر أهمية للاقتصاد المصري، وخاصة المتوسطة والصغيرة منها، فهو يحتاج لدولة قانون مكتملة الأركان، وجهاز إداري كفء ومواجهه للبيروقراطية والفساد، حتى تستطيع أن تنمو وتزدهر.

لا يجب إلغاء ما تم بناؤه ولا شطب المدن والطرق والبنايات الضخمة، أو الاستهانة بجهود من قاموا بها، لكن يجب أن نعلم، أن الاستثمار الحقيقي سيكون في الاستثمار في مشاريع منتجة، تدر عائدا اقتصاديا ودخلا، وأن يكون جانب كبير منها قابل للتصدير إلى الخارج وجلب العملة الصعبة.

لا يمكن أن ننطلق نحو هذا “الاستثمار الثلاثي”، إلا إذا اعترف الحكم الحالي بأخطاء الولايتين السابقتين، وإن هذه الاستثمارات تراجعت في الفترة السابقة، وهو ما أدى إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية، وزيادة الديون لمستوى غير مسبوق، وانهيار متتالٍ في العملة الوطنية، وزيادة هائلة في معدلات التضخم.

تحتاج الولاية الجديدة بجانب الإصلاح الاقتصادي إلى إصلاح سياسي، يعيد الاعتبار للسياسة ودور الوسيط السياسي والنقابي، والأهلي الذي يتحرك في العلن والنور.

إن تراجع النقاش العام حول قضايا جادة لصالح التركيز على قضايا هامشية وصغيرة والنفخ فيها، كما يجري حاليا مع مسلسلات رمضان وخناقات أهل الفن والكرة (مذيعة سألت بجدية شديدة هذا الأسبوع فنانا، وقالت له: ليه قفلت لك الفنانة الفلانية السكة في وشك) كل هذا الإغراق المتعمد في تفاصيل تافهة واصطناع معارك وهمية، لن يلغي وجود قضايا أخرى، يناقشها الناس في جلساتهم الخاصة، حتى لو كان المعلن لا يعرضها.

الحديث في شكليات الدين، والتغني بحب مصر وحملات الهجوم على المعارضين، أو الهجوم على المؤيدين سياسيا، في حال إذا كان لهم رأي علمي أو فني مختلف عن الرأي السائد؛ فيتعرضوا أيضا لهجوم وإقصاء من النقاش العام.

الولاية الأخيرة تحتاج أن تفتح المجال العالم لآراء أهل العلم والخبرة والتخصص، وأن تعيد الاعتبار لهم، وأن تعتبر دراسات الجدوى شرطا، لإتمام أي مشروع، جنبا إلى جنب مع ضرورة إعادة الاعتبار للوسيط السياسي والنقابي والأهلي؛ لأنه لم  يحدث في تاريخ النظم السياسية، أن غاب الوسيط السياسي أيا كان شكله، أو الوسيط الأهلي، من نقابات وروابط شعبية ومجتمع مدني، وفي حال إضعاف هذه الوسائط، يصبح هناك خطر كبير، أن تقفز فجأة في وجوه الجميع حصيلة “التفاعلات المخفية” التي غُيبت عن المجال العام طوال سنوات الولاية الأولى والثانية.