“توماس فريدمان” و”سيمور هيرش” اسمان كبيران في الصحافة الأمريكية.
كلاهما صحفي ذائع الصيت كلمته مسموعة، ويهودي الديانة.
بأية معايير إنسانية وسياسية، فإنهما يقفان على طرفي نقيض.
ارتبط الأول، بصحيفة الـ “نيويورك تايمز” مدافعا عن إسرائيل في حروبها وأزماتها، لكنه ينتقدها أحيانا بدواعي تصحيح سياساتها، حتى وصل أخيرا إلى نسف كل الجسور مع رئيس وزراءها الحالي “بنيامين نتانياهو”، باعتباره خطرا داهما على مستقبل الدولة.
وارتبط الثاني، لسنوات طويلة بمجلة الـ “نيويوركر” صحفيا استقصائيا لا يبارى، قضيته الأولى “إساءة استخدام القوة والسلطة تحت ذريعة حماية الأمن القومي الأمريكي”.
في سجله: فضح مذبحة “ماي لاي” في فيتنام (١٩٦٩)، وكشف النقاب عن الترسانة النووية الإسرائيلية (١٩٩١)، التي كانت سرا غامضا لعشرات السنين، وإزاحة الستار عن فظائع سجن أبو غريب بعد احتلال العراق.
من موقعين متناقضين، دخل كلاهما اختبار غزة، مع أي طرف يقف، الجلاد أم الضحية، وعن أي معنى يدافع، الإبادة الجماعية أم حق الشعوب المضطهدة في تقرير مصيرها بنفسها؟
إثر عملية “طوفان الأقصى” هرع “فريدمان” إلى تل أبيب لإبداء التضامن الكامل معها، والتعرف على الطريقة التي سوف تنتقم بها من “أسوأ يوم في تاريخ إسرائيل”؟!
تبنى الرواية الإسرائيلية، التي راجت في الميديا الغربية عن الفظائع، التي ارتكبت بحق الإسرائيليين المدنيين العزل، قبل أن تستبين أمام العالم، أنها مختلقة ومزيفة.
لم يقع “هيرش” في فخ الدعايات المصطنعة، استدعى وهو في الخامسة والثمانين من عمره أسلحته القديمة في البحث والاستقصاء.
بدا “فريدمان” السبعيني أيديولوجيا صهيونيا.. فيما روى “هيرش” قصة الحرب على نحو مختلف مزيحا الستار، عما هو خاف من معلومات وأسرار.
لم يخف “فريدمان” انزعاجه من أن تتكرر مشاهد المحرقة النازية “الهولوكوست” بحق “اليهود المسالمين” على يد “حماس”، فيما تبنى “هيرش” الرواية الأخرى، أن المحرقة تتم الآن بحق الفلسطينيين في غزة، الذين يتعرضون لإبادة جماعية.
من وجهة نظر “فريدمان” فإن بوصلته أمن إسرائيل ومستقبلها بغض النظر عن الأثمان الفادحة التي يدفعها الفلسطينيون، والعرب والمنطقة كلها.
بعد ستة أشهر من الحرب، أو الإخفاق الإسرائيلي في حسم أيا من أهدافها المعلنة، طرأ شيء من التغير على تفكيره، ليس تضامنا مع الفلسطينيين بقدر، ما هو الخوف من التداعيات السلبية المتنامية على صورة إسرائيل في العالم.
استدعت التظاهرات والاحتجاجات الحاشدة في العواصم والمدن الأوروبية والأمريكية الكبرى متغيرات جوهرية في النظر الدولي إلى إسرائيل.. هذا أقلقه.
ارتفعت الأعلام الفلسطينية في كل مكان، واتهمت إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية.. وهذا استدعى نظرة أخرى.
هكذا دعا مؤخرا إسرائيل إلى الانسحاب من غزة.
إنها الحقائق الضاغطة، لا الدواعي الإنسانية.
بقوة الحقائق نفسها دعا “فريدمان” الرئيس الأمريكي “جو بايدن” أن يتوقف عن الحديث مع “نتانياهو” بلطف!
قبل أسابيع، كتب هو نفسه مقالا عنصريا بمغزاه وتشبيهاته، حاول فيه أن يفهم ما يجري في الشرق الأوسط من خلال “مملكة الحيوانات”!
ترافقت لغته مع المقاربات الأمريكية المستجدة لحرب غزة؛ خشية أن تتفاقم الهزيمة الاستراتيجية والأخلاقية التي لحقت بإسرائيل إلى حدود يصعب ترميمها، أو تطويق أثارها.
أبدى خشيته مبكرا، أن تجد إسرائيل نفسها منكشفة على ست جبهات بتوقيت واحد.
كتب: “علينا أن نقلق”.
حذر تاليا من أن تغرق إسرائيل في وحل غزة.
كان ذلك هو موقف إدارة “بايدن”.
لا يصعب استنتاج الصلات العميقة التي تجمع “فريدمان” بفريق “بايدن”.
بالقرب من تلك الإدارة، أبدى حماسا مفرطا لحربي أوكرانيا وغزة.
رجح أن تنتهي الحرب الأوكرانية عقب معركة الربيع في عام (2023).
فشل ما اسمي “الهجوم المضاد” في تغيير المعادلات على الأرض، وتقوضت توقعاته، قبل أن تداهمه حربا أخرى في غزة، استقطبت كل الأنظار، حتى بدت الحرب الأوكرانية على هامش الاهتمامات والحوادث.
هكذا وجد نفسه أمام مأزق مزدوج، خسارة رهانين على حربين بوقت واحد.
على النقيض من ذلك كله، مضى “هيرش” في كشف المستور عن خفايا الحربين، انفرد في الحرب الأوكرانية بكشف حقيقة الدور الأمريكي في تخريب خطي أنابيب الغاز الروسي “نورد ستريم”، حيث لغمها الغواصون أثناء إحدى المناورات، وبعد ثلاثة أشهر تولى الجانب النرويجي تفجيرها.
تابع الحرب على غزة بقدر ما أتيحت له من معلومات موثوقة.
بعد أيام قليلة من السابع من أكتوبر، كشف أن إسرائيل تخطط لاستخدام قنابل جوية ذكية، وحارقة “جدام” تمهيدا لغزو بري، كان متوقعا.
كتب حرفيا ومبكرا، أن الهدف: “تدمير غزة كاملا”.
ثم عاد في (25) ديسمبر التالي ليكتب: “إن إسرائيل ستقتل جميع قادة حماس، بمجرد أن تستلم آخر رهينة”.
كان ذلك تحذيرا معلنا من الوقوع في فخ خسارة “ورقة الأسرى والرهائن” في أية مفاوضات قبل التأكد من الوقف المستدام لإطلاق النار.
بصياغات صارمة حذر بنفس التوقيت من “تحويل غزة إلى هيروشيما جديدة دون أسلحة نووية”.
هذا ما جدث بالضبط، حيث هدمت البيوت كلها تقريبا، واستهدفت المستشفيات بطواقمها الطبية دون رحمة، ومنعت أية مساعدات غذائية عن القطاع المحاصر لتجويعه وإذلاله، حتى تصبح الحياة مستحيلة، ويكون ممكنا التهجير قسريا أو طوعيا.
“إن إصرار إسرائيل على ترحيل الفلسطينيين من شمالي غزة إلى جنوب القطاع يعني، أنها تريد تدمير ومحو قطاع غزة بالكامل؛ للتخلص من أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، الذين لن يمكنهم العودة لاحقا، ولا يكون أمامهم غير التهجير إلى مستوطنة سابقة في سيناء”.
ذلك السيناريو، رغم انكساره، ليس مستبعدا حتى الآن.
اجتياح رفح بالقرب من الحدود المصرية، ما يزال ماثلا، رغم الممانعات الأمريكية والدولية.
“نتنياهو” ينظر إلى غزو رفح كفرصة أخيرة؛ لمنع إعلان هزيمته في الحرب على غزة.
المفارقة الكبرى، أننا نكاد لا ندرك من معنا.. ومن ضدنا في العالم الذي نعيش فيه!.. حيث يحظى “فريدمان” بمتابعة عربية أوسع لكل حرف يكتبه، فيما يكاد يفرض التجهيل العام بـ”هيرش”.
في عام (2007)، طلب الأستاذ “محمد حسنين هيكل” من صديقه “هيرش” إلقاء محاضرات بالقاهرة لمجموعة من الدارسين في المؤسسة التي تحمل اسمه حول صحافة الاستقصاء.
في ذلك الوقت شنت حملة واسعة.
لم يكن “هيرش”، ولا ديانته، بقدر ما كان “هيكل” ودوره، قصد الحملة.
قبل أن يبدأ الضيف محاضرته عن احتمالات الحرب على إيران، تحدث “هيكل” في كلمة مقتضبة ودالة من فوق منصة قاعة “إيوارت” بالجامعة الأمريكية، امتلأت عن آخرها بصحفيين كبار وسفراء غربيين وأكاديميين ووزراء سابقين، وطلاب من الجامعة نفسها.
[فوجئنا بأبواب عديدة توصد أمامنا، وأنا لا أريد أن أشير إلى ما لا يلزم- ربما لا يستحق- الإشارة إليه، لكن من حق الجامعة الأمريكية عليّ أن أقول إنها، وإن لم تكن مقصدنا الأول، أصبحت- مع إحساسها بمعنى الحق في المعرفة- ملجأنا الأخير.
في البداية كان فكرنا أن تكون إحدى قاعات مكتبة القاهرة الكبرى مكانا تعقد فيه هذه الدورة الأولى من نشاط المؤسسة، وهي دورة دعونا إليها الصحفي الكبير سيمور هيرش، لأننا اخترنا صحافة العمق موضوعا لها، واسم سيمور هيرش هو أول ما يخطر على البال في هذا المجال في الصحافة العالمية.
ومع أن قاعات مكتبة القاهرة مفتوحة لمناسبات كثيرة متعددة الاهتمامات، إلا أننا تلقينا ردا بالاعتذار لسببين مختلفين.
الأول، أن هناك مشكلة أمن.. والثاني، أن سيمور هيرش يهودي.
من المدهش أن تثار مثل هذه الإشارة المثقلة بمواريث الجانب المظلم في التاريخ غير العربي وغير الإسلامي دون تفرقة بين الديانة اليهودية وبين العدوانية الإسرائيلية، خصوصا بالنسبة لرجل مثل سيمور هيرش، وهو الذي كشف أمام العالم كله خبايا وخفايا مشروع إسرائيل النووي، منبها إلى حجمه وخطره، ولعلها من المفارقات أن تصدر مثل هذه الإشارة إلى ديانة سيمور هيرش هنا، في حين أنها نسيت مع أمثال مناحم بيجين وشامير ورابين وديان وشارون وإيهود أولمرت.
على أن باب مكتبة القاهرة الكبرى لم يكن الباب الوحيد الذي جرى إغلاقه أمام المؤسسة، لكن هذا الإجراء المبكر بدا إشارة مبكرة إلى تصرفات لاحقة، أوثر ألا أشير لها، ولولا أن مسألة يهودية سيمور هيرش وصلت إليه لما أشرت إليها، لكني أذكرها هنا لكي اعتذر عنها لرجل وقف دائما بالحق في مواجهة القوة.
لقد وقف سيمور هيرش كصحفي بالحق ضد القوة في بلاده، وكثير فيه داخل إلى الصميم في قضايا الشرق الأوسط، ويبقى أمر أريد توضيحه في هذا المجال مؤداه، أنني لم استطرد كثيرا في حديث الأبواب المغلقة؛ لأني لا أريد تسييس عملنا، مع تسليمي بالطبع بأن السياسة مثل الهواء، لا يمكن عزلها عن طبائع الحياة العامة، وأولها الأفكار والمواقف، لكننا مطالبون ـ أحيانا ـ بأن نراعي اعتبارات متناقضة، وعلى أي حال فتلك هي المأساة الإنسانية المشهورة: البشر والقدر- والمأمول والواقع- والممكن والمستحيل].
لم يشر “هيكل” إلى القصة كلها، التي تابعت بعض فصولها، فقد أغلقت الأبواب أمام تلك المحاضرة، وتراجع مسئولون كبار عن تعهدات قطعوها تحت ضغط الأمن، والأمن تحت ضغط الرئاسة.
كان ذلك تعبيرا موجعا عن فجوات وتناقضات ومآسٍ في النظر إلى القضايا العربية، وفي الصمت على رموز التعصب الإسرائيلي، بينما الهجمات تنصب بلا عدل على من يقفون بجانبنا في الغرب لمجرد أنهم يهود.
من فوق منصة الجامعة الأمريكية، كانت أول جملة أطلقها “هيرش”: “هذه المرة الأولى التي يذكر فيها اسمي مع بيجين وشامير”.. فضجت القاعة بخليط من الضحك والتصفيق.
ضحك كالبكاء، وتصفيق كتحية مستحقة لصحفي أمريكي وقف دائما مع الضحية الفلسطينية.