في كل تجارب العالم، التغيير كان سمة النظم السياسية القائمة، فلم يبق نظام على حاله ولم تبق دولة بلا تغيير، ومجتمع بلا تحول، ويبقي المهم هو وسيلة التغيير، وهل كان خطوة حقيقية في اتجاه العدالة والتقدم أم كان خطوة للوراء.

والحقيقة أن هناك نموذجين للتحول السياسي: الأول ثوري أو تغير فجائي غالبا غير متوقع وغير مرئي، وأفرز تجارب كثيرة في الشرق والغرب بعضها نجح وحقق التنمية الاقتصادية والسياسية المنشودة، وكثير منها فشل فشلا ذريعا، وكان وبالا على الناس، والثاني تحول تدريجي، وبدأ بإجراءات إصلاحية حقيقية، تعطي مساحات آمنه للعمل السياسي، وتترك للإرادة الشعبية، أن تختار من يمثلوها؛ فتبدأ مثلا بالمحليات، كما حدث في تركيا مع تجربة أردوغان، أو أن تحصل المعارضة على أغلبية غير مطلقة في البرلمان، حتى يتعود الناس على الممارسة الديمقراطية، ويتعلمون من أخطائهم بحيث يكونون قادرين على تحمل مسئولية بناء نظام ديمقراطي.

والحقيقة أن أحد شروط نجاح التحولات الآمنة في أي بلد من البلدان هو وجود وسيط سياسي ونقابي وأهلي، نجده بصور مختلفة في كل النظم السياسية، بما فيها نظام الحزب الواحد مثل الصين التي يحكمها الحزب الشيوعي الذي تأسس منذ أكثر من قرن، ونجح عبر رحلة نضال وعمل سياسي طويلة في جذب الغالبية العظمي من الراغبين في العمل السياسي داخل مؤسساته، وسمح بمناقشة كل المشاكل المحلية داخل قواعد ومؤسسات الحزب المختلفة من صحة وتعليم وخدمات وتطوير مدن وأحياء، ووضع قيودا مسبقة وخطوطا حمراء، لا يسمح بتجاوزها على قضايا الوصول للسلطة وآليات اختيار الرئيس.

ومن هنا، فإن نقطة الانطلاق في أي بلد يريد أن يؤسس “لتحولات آمنة”، أن تكون في إعطاء مساحات آمنة للعمل السياسي والنقابي والأهلي، يتفق فيها على القواعد الحاكمة والخطوط الحمراء لعملية سياسية غير مصنعة مسبقا؛ لأن الأخيرة تؤدي إلى فقدان الناس الثقة في المؤسسات السياسية القائمة، وتجعلها مجرد كيانات شكلية، ليس لها أساس في الواقع المجتمعي.

ما يضمن حدوث أي تحولات آمنة وغير ثورية في أي مجتمع من المجتمعات وجود هامش حقيقي، وغير مصطنع للوسيط السياسي الحزبي والأهلي من نقابات وروابط شعبية ومجتمع مدني، وفي حال غياب هذه الوسائط أو إضعافها، يصبح هناك خطر كبير، أن يتجه المجتمع نحو التحولات الثورية أو الاحتجاجات الفجائية، والتي تكون نتيجة ضغوط وكبت يقع على الشعوب، ويغيب قدرتها على النقد والدخول في مسارات آمنة للتغيير السياسي والسلمي.

المساحات الآمنة في العمل السياسي تخرج “غير المرئي” إلى “المرئي”، وتصبح همسات البعض أو غضب البعض الآخر له مسار علني وآمن؛ للتعبير عنه ويمثل البدايات الآمنة لأي عمل سياسي.

صحيح أن هناك من يرى، أن مصر تعرضت لتهديدات وجودية وعمليات عنف وإرهاب في أعقاب ٢٠١٣، دفعت الكثيرين إلى تبرير القيود التي فرضت على المجال العام والسياسي، بل أن البعض شجع على إغلاقه بشكل كامل، إلا أن الواقع حاليا يقول، إن المشكلات الوجودية التي شهدتها مصر قد تراجعت، وأصبحت حاليا تعاني من غياب النقد وإغلاق المجال العام وسوء الأداء، والفساد وعدم وجود مسارات آمنه مستقلة قادرة على جذب غالبية للمواطنين؛ للمشاركة في المسارات السياسية التي تصنع تغييرا تدريجيا وآمنا.

المطلوب حاليا، هو البحث عن نقطة انطلاق آمنه للعمل السياسي، سواء تعلقت بالمحليات أو إعطاء مساحة حقيقية للقوى الحزبية المدنية للتحرك المستقل بعيدا عن السياقات سابقة التجهيز، وعدم تدخل الدولة في تفاصيل إدارة المؤسسات السياسية والاقتصادية والإعلامية، وترك من يعملون أو ينشطون فيها يديروها ويقودوها وفق قواعدها، على أن تضع الدولة الخطوط الحمراء لتحركاتها ولها حق “الفيتو” في حال الخروج عن القواعد الدستورية والقانونية القائمة.

البدايات السياسية الآمنة والتدريجية خيار إصلاحي مفيد للجميع: الشعب والقوى السياسية والحكم، بشرط أن تكون هناك ضمانة لاستقلالية هذا المسار، حتى يمكنه أن ينال ثقة الناس ويؤسس لعملية سياسية، تنضج مع الوقت بالممارسة العملية وباحترام الدستور والقانون، لأن كثيرا من الدول والمجتمعات صنعت التغيير عبر تحولات فجائية، فكانت مخاطرة كبرى للجميع شعوبا ونظما، أو عرفت تغييرات ثورية عبر تنظيمات أو أحزاب ثورية، وهو نموذج راج في أوائل القرن الماضي، ولكنه تراجع منذ النصف الثاني من القرن الماضي لصالح مسارات التحول التدريجي الآمن بشرط، أن تعي النظم القائمة أهمية، أن تضع مسارا آمنا وتدريجيا للتغيير ينجيها من مخاطر كثيرة.