بعد اجتماعٍ مع أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي في واشنطن يوم الأربعاء الماضي؛ لمناقشة ملفات أتت على رأسها الأزمة الأوكرانية والمأساة الإنسانية في غزة، أعرب اللورد ديفيد كاميرون وزير الخارجية البريطاني في مؤتمر صحفي عن مخاوفه البالغة (ياللرأفة!) بشأن إمكانية وصول المساعدات الإنسانية لغزة، وطالب (ياللحسم!) الدولة الصهيونية، بأن تضطلع بمسئولياتها بتحويل تعهداتها في هذا الخصوص إلى واقع على الأرض. ثم قال للصحفيين: “إن حكومتنا لن تنشر المشورة القانونية، ولن تُصدر بشأنها أي تعليق، ولكننا نتصرف بطريقة تتماشى معها، فنحن حكومة تخضع للقانون”.
كانت صحيفة الجارديان قد كَشَفت، أن رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، كان قد تَسَلم بنهاية الشهر الماضي، مُذكِرة المشورة التي أشار إليها اللورد كاميرون، والتى جاءت مَمْهُورَةً بتوقيع 600 من المحامين والأكاديميين البريطانيين، كان من بينهم ثلاث من القضاة السابقين بالمحكمة العليا البريطانية، حذروا فيها من أن مبيعات الأسلحة البريطانية للدولة الصهيونية هي مسألة غير قانونية بموجب القانون الدولي، بالإضافة إلى أن النظام البريطاني لصادرات الأسلحة يحظر تصديرها لأي جهة، إن كان هناك خطر واضح، من أنها قد تُستخدم في ارتكاب أو تسهيل ارتكاب انتهاكات خطيرة للقانون الإنساني الدولي.
تعرضت الحكومة البريطانية لانتقادات واسعة؛ بسبب عدم التزامها بالمشورة القانونية، وكان من أهم تلك الانتقادات هو ما نقلته صحيفة الأوبزيرفر عن المحامي البريطاني، والمدعي العام لجرائم الحرب السير جيفري نيس، الذي قال نَصًا: “إن الدول التي تزود إسرائيل بالأسلحة قد تكون متواطئة الآن في الحرب الإجرامية بغزة. يجب إخبار الجمهور بما وَرَد بالمشورة القانونية”. تفاقمت الانتقادات التى تعرضت لها الحكومة البريطانية بشدة بعد مصرع سبعة أعضاء من فريق المطبخ العالمي الذي كان يعمل في مجال المساعدات الإنسانية بغزة، والذين كان من بينهم ثلاثة يحملون الجنسية البريطانية، ليأتي اللورد المُفَخَم فيرفض على الملأ نشر المشورة القانونية والتعليق عليها، بل ووصل به الأمر إلى الكذب الصريح أمام الصحافة العالمية، بأن وزارته تتصرف بطريقة تتماشى مع ما ورد بها.
يخشى بعض السياسيين البريطانيين، من أن تقف بلادهم- التي لا تقوم بتصدير أسلحة للدولة الصهيونية بمبالغ ذات وزن اقتصاديٍ نسبي عالٍ- في نفس موقف ألمانيا التي مَثُلَت بنهاية الأسبوع الماضي أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي مُتَهَمَةً، بأنها قد ساعدت الدولة الصهيونية في انتهاك اتفاقية منع جرائم الإبادة الجماعية بغزة، خصوصًا وأن دولًا أوروبية أخرى من أعضاء حلف شمال الأطلنطي، كبلجيكا وهولندا وإسبانيا وإيطاليا، قد قامت بالفعل بتعليق تصدير الأسلحة للدولة الصهيونية. كانت المؤسسة الإعلامية الألمانية دويتش فيله، قد عرضت في مطلع هذا الأسبوع، تقريرًا حول الدعوى التى أقامتها نيكاراجوا ضد ألمانيا بمحكمة العدل الدولية، جاء فيه أن محامي نيكاراجوا قد أشار، إلى أن السلطات الألمانية قد منحت تراخيص لتصدير المعدات العسكرية كأولوية للدولة الصهيونية تُقدر بنحو 300 مليون يورو على خلفية الحرب في غزة. كما أشار المحامي إلى أن الأسلحة المُرسلة تتضمن 3000 قطعة سلاح مضاد للدبابات، و500 ألف طلقة ذخيرة للمدافع الرشاشة، و44 شحنة دافعة. وقد أشار التقرير أيضًا، إلى أن ألمانيا تعتبر أقرب حليف أوروبي لإسرائيل، حيث ذكر معهد ستوكهولم الدولي، أن ألمانيا كانت أكبر مُصَدِّر للأسلحة للدولة الصهيونية بعد الولايات المتحدة الأمريكية في الفترة من 2019 إلى 2023، فيما اعترفت ممثلة ألمانيا في الجلسة الأولى للمحاكمة- حسب تقرير دويتش فيله- بمسئولية بلادها تجاه الدولة الصهيونية قائلة: “إن تاريخنا هو السبب في وقوع أمن إسرائيل في قلب السياسة الخارجية الألمانية”. أضاف التقرير، أنه ليس بإمكان نيكاراجوا انتهاج نفس المسلك مع الولايات المتحدة، حيث لم تُخضِع الأخيرة نفسها للولاية القضائية المتعلقة بمحكمة العدل الدولية.
ولا شَك عندي، أن كل الجهد الطيب الذي بُذِل، وما زال يُبذَل بالمحافل الدولية على أهميته الأخلاقية، لن يوقف الممارسات العنصرية البائسة التى يدعمها نفاق صريح لدول كبرى، لا تحترم قوانين ابتدعتها ولا مؤسسات أنشأتها. ففي الوقت الذي لم يَعُد أمام سفاح تل أبيب سوى المُضي قُدُمًا في مخطط اجتياح رفح، واضِعًا المنطقة برمتها على حافة الهاوية، فيما سَبَق وأن وصفه كاتب هذه السطور “بورقة السفاح الأخيرة”، يأتي نفاق المجتمع الدولي واضحًا جَليًا، يؤكده موقف اللورد المُفَخَّم الذي تحمل بلاده مسئوليةً تاريخية عن شلال الدم التاريخي بفلسطين، والمُمتَد عبر الزمن منذ 1917، وحتى هذه اللحظة، ويعززه تهافت الموقف الألماني الذي ما زال يعيش عقدة ذنب الهولوكوست، ناهيك عن الانحياز الكامل للولايات المتحدة الأمريكية، وتورطها المباشر وغير المباشر في المذبحة.
إن الواقع الذي يتغير كل لحظة سيؤول في نهايته إلى تلاشي المنظومة الفكرية التى أُسِسَت عليها مواثيق المجتمع الدولي لعَالَمِ ما بعد الحرب الكونية الثانية ومنظماته المتعددة، حيث بدأت مسيرة انهيار تلك المنظومة مع سقوط جدار برلين في 1989، وتَحلُل النظام ثنائي القطبية بزوال الاتحاد السوفيتي لتنفرد أمريكا بالعالم لمدة تقرُب من الثلاثين عامًا، تفشت فيها الحروب والمجاعات والفقر وخراب الطبيعة والمناخ، لتتوالى محطات انهيار تلك المنظومة في السنوات الأخيرة، بإخفاق منظمة الصحة العالمية في التعامل مع أزمة فيروس كورونا، ثم فشل الأمم المتحدة، ومجلس الأمن في التعاطي مع الأزمة الروسية الأوكرانية، بكل ما أفرزته هاتان الأزمتان من كوارث اقتصادية وويلات اجتماعية، لتأتي الأزمة الإنسانية في غزة كمحطة أخرى، تقترب بالمسيرة العسيرة من نهايتها.