يقول الفيلسوف الأندلسي الشهير ابن رشد: “إذا أردت أن تتحكم في جاهل، فعليك أن تغلف كل باطل بغلاف ديني”. ويضيف: “إن التجارة بالأديان هي التجارة الرائجة في المجتمعات التي ينتشر فيها الجهل”. هكذا كان المفكرون والعلماء قديما يفكرون. واحد من أهم الأفعال التي مرد عليها ثلة من الناس، هي تصديق أو الثقة في سلوك كل من يقول من الناس قال الله.. وقال الرسول.. حتى أن البعض خبر ذلك جيدا، فبات يضع بديل النغمات في هاتفه الجوال أدعية وما شابه، عسى أن ينطلي ذلك على محدثيه، رغم أن الإيمان هو قضية فردية بامتياز، لا علاقة للغير بها، “فمن شاء منكم فليؤمن ومن شاء فليكفر”.

هذا الحديث هو مقدمة لما بات يعرف بتمسح الحكام بالأديان، عسى أن يحاك ذلك على الناس، وتلك الظاهرة قديمة، وبقت لقرون طويلة، وتصارع من خلالها في العصور الوسطى في أوروبا رجال الدين مع الحكام، كما كانت ظاهرة قائمة في عديد البلدان الإسلامية. وقد بقى ذلك المفهوم وممارسته ساريا في أوروبا، إلى أن قامت ما سمي بالثورة المجيدة في إنجلترا في النصف الثاني من القرن السابع عشر، لكنه استمر دون تغيير في بعض البلدان العربية، والتي حكم بعضها باسم الإسلام؛ فسارت مهمة لهم إلصاق أسمائهم بألقاب مثل أمير المؤمنين وخادم الحرمين وغيرها.

تقوم نظرية الحق الإلهي في الحكم، على أن الحاكم هو مبعوث العناية الإلهية، ومن حقه أن يستبد بالحكم، ما دام يرفع هذا الشعار، وهو بالطبع يلجأ لذلك كلما استدعى الأمر، أن يبين للغير أنه على صواب وغيره على خطأ. بعبارة أخرى، هو لا يستطيع ولا يتمكن من تبرير أفعاله بشكل علمي ومنطقي، فيلجأ إلى إظهار أن العلاقة بينه وبين ربه لا حاجب ولا حاجز بينها، وربما يؤكد أن دعوته مستجابه، وأنه يفهم ويعي أكثر من الباقين، مهما بلغوا من علم ودراية. ولا غرو في أن بعض هؤلاء الحكام ينكل بخصومه من تلك الزاوية.

عديد حكام مصر من القدماء والمحدثين خبر ذلك، واستغل أو تصور، أن الناس بقدر من الجهل الذي يجعل منهم يتصورون أو يصدقون كونه مبعوث عناية إلهية. خذ على سبيل المثال الدولة الفاطمية التي دانت بالمذهب الشيعي الإسماعيلي، وحكامها الذين ألحقت بكل اسم منهم كلمة “بأمر الله” “لدين الله” “بنصر الله” “بأحكام الله”… إلخ. وقد عرف معظم هؤلاء الشدة في الحكم والتنكيل بالشعب المصري، وختم عهدهم بالفشل الكبير؛ بسبب فشلهم في صد غزوات الصليبيين، وسقوط القدس 1099م. وخلال الدولة العثمانية والتي حكمت مصر بعد دولة المماليك، كان التصوف وانتشار البدع من أهم سياسات حكام تلك الدولة التي كان لها في البداية أمجاد لا تنكر، وقد دخل ضمن ذلك تقديس الأموات، وتبجيل بعض الأحياء، وقد نسب الحكام العثمانيون إلى أنفسهم، كما يقول د. محمد الصلابي في مؤلفه عن أسباب سمو وسقوط الدول العثمانية، خوارق العادات والكرامات، وعاشوا في الأوهام، وعالم الخيال، ما أدى إلى إصابة الناس بالوهن والعجز والانحطاط، واتساع هوة التخلف والسقوط، وبالمقابل كانت أوروبا تواصل وقتئذ صعودها في سلم الحضارة المادية.

وفي الوقت الحديث، كان هناك كثيرون ينسبوا إلى أنفسهم الألقاب والكرامات والأوصاف، فهذا الرئيس المؤمن، الذي يُصعد الإخوان نكاية في الماركسيين، ويصلي بالجلباب ويظهر ريفيته وتدينه في كل مناسبة كبرت أو صغرت، وتقطع محطات تليفزيونه فقراتها الراقصة أحيانا لبث الآذان، وهذا ثان يعد بالحكم بالشريعة، ويعين حلفاءه من السلفيين في مناصب الدولة البارزة، ويصدر الاتحاد العام لعلماء المسلمين بيانا، بأنه من أولي الأمر وطاعته واجبه، وأن الخروج عليه حرام. وهذا ثالث يترك للناس المتضورين جوعا بنسبة فقر، تتجاوز ثلث الشعب البركة، ويفهم كما يفهم نبي الله سليمان، ويسبغ على حكمه بعض أقوال القرآن الكريم… إلخ.

هنا يبقى السؤال، هل الناس تنطلي عليها تلك الكلمات أو الأوصاف أو السلوكيات؟ المؤكد أن حال البلاد في القرون السابقة يختلف بالكلية عن الحال اليوم. صحيح أن هناك بعض من الناس لا زالوا يحسنوا النية بسلوك حكامهم، إلا أن هناك آخرين لم يصدقوا تلك الأمور، ويتعاملوا معها على أنها سلوكيات محل للنقد والأخذ والرد. هنا يمكن الإشارة إلى أن أسباب ذلك تكمن، فيما يلي: –

أولا: كانت نسبة الأمية التعليمية بين الناس قديما مرتفعة، وكانت نسبة الأمية الثقافية كبيرة للغاية، وقد أثر ذلك على عقلية هؤلاء، فأصبحت نسبة تصديق الحاكم، وما يسبغه وبطانة السوء على نفسه من كرامات وتبجيلات نسبة عالية. بالمقابل فإن نسبة الأمية المحدودة، والتي لم تتجاوز 17,5% من عدد السكان عام 2022 وفقا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، جعلت غالبية الناس أكثر تفنيدا لروايات الكرامات والألوهية والغيبيات.

ثانيا: أن الكثير من الناس اليوم في عالم التقنية وتداول المعلومات وشبكات التواصل الاجتماعي، يقومون بتوعية بعضهم وتداول الرسائل النصية، والتي لا يخلو بعضها من صور ساخرة، وكلها ترفض سلوك الكرامات والقدرات الخارقة والحكم بتفويض إلهي، ما يجعل الناس البسطاء لا يصدقون تلك الروايات، عندما تسقط في أيديهم تلك الرسائل التي تنقلها تطبيقات الهواتف النقالة بين الناس دون رقابة تذكر.

ثالثا: أن الظروف والأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية على أرض الواقع، والتي لم تعد خافية على أحد، تنفي بالكلية صلة مدعي الحكم بتفويض إلهي أو ما شابه ذلك، بأنهم بالفعل مبعوثون للعناية الإلهية، وأنهم مكشوف عنهم الكثير من المستور والمحجوب. بعبارة أخرى، لو كان هؤلاء أصحاب كرامات ومحامد إلهية، أوأنهم يحملون تفويضا من المطلق أو الغيبي، ما كانت أحوال البلاد تتسم بهذا القدر من الهزال والارتباك والإرباك.

رابعا: إن النظر إلى أحوال البلدان المتمدينة سواء في الغرب التقليدي، في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان وكندا، أو في الدول الصاعدة من بلدان العالم الثالث ككوريا الجنوبية وماليزيا وجنوب إفريقيا والبرازيل والهند وغيرها، كلها تشير إلى أن تلك النجاحات التي حققها هؤلاء، فيما يتصل بالتقدم الاقتصادي والعلمي التقني الكبير، لم تكن مرتبطة على الإطلاق بحمل حكام تلك البلدان في العصر الحديث أية دعاوى غيبية، ترمي إلى الحكم بتفويض سماوي.

غاية القول، إن الدق الدائم على مسألة الحكم بالعناية الإلهية، أو التفويض السماوي، أو ما شابه ذلك من قريب أو بعيد، هو أمر عادة ما يأتي بنتائج عكسية، لأنه يولد بشكل أو بآخر حكما ثيوقراطيا. بعبارة أخرى، إن تلك السلوكيات من أي حاكم مصري قدر ما يرى هو، أنها تحقق فوائد؛ لأنها تسبغ قدرا من القداسة على الحكم والسلطة في البلاد، إلا أنها في ذات الوقت قد تسفر عن قدوم المعارضة الدينية إلى الحكم مرة أخرى، ولنا هنا في سلوك الرئيس الأسبق أنور السادات درس مهم، فهو من اختار إسباغ ذاته بهالة دينية واضحة، وكان ضمن النتائج التي أسفرت عنها سياساته، هو خروج الجماعات الدينية المتطرفة كتنظيم الجهاد والجماعة الإسلامية من عباءة جماعة الإخوان المسلمين، والتي كان غاية استفحال نشاطها يوم 6 أكتوبر1981.

ما من شك في أن العلم والتكنولوجيا والابتكار واللحاق بثورة المعلومات والاتصالات، هو من أهم سمات المجتمعات المتطورة، والتي استطاعت أن تحقق إنجازات على كافة الأصعدة. لذلك من المهم للغاية، أن تكون تلك الآليات وحدها هي السند الرئيس للإقناع والإنجاز والتقدم.