أثار الرد الإيراني على الاستهداف الإسرائيلي لقنصليتها ردود فعل واسعة داخل العالم العربي وخارجه، وانبرى كثيرون في ترديد نظريات المؤامرة، واعتبروا أن الأمر لا يعدو مجرد مسرحية متفق عليها مسبقا بين الإيرانيين والإسرائيليين والأمريكيين، وأن فشل الهجوم الإيراني في تحقيق أي إصابات لدى الجانب الإسرائيلي، اعتبره البعض دليلا، على أنه استعراضي، وليس هجوما جادا.
والمؤكد أن هناك مشاعر غضب لدى قطاعات واسعة من الناس تجاه إيران، وخاصة في البلدان العربية التي تضررت من تدخلاتها مثل سوريا والعراق ولبنان واليمن، صحيح أنه في مقابل هؤلاء الذين “شيطنوا” إيران، هناك من اعتبروها الدولة الراعية والقدوة والنموذج، وخاصة في أوساط أذرعها وتنظيماتها السياسية والمسلحة في أكثر من ساحة عربية.
والحقيقة أن هذا الانقسام والاستقطاب حول إيران، لا يجب أن يدفع البعض، وخاصة في بلد مثل مصر، ليس لديها مرارات مع إيران، تجعلها تدخل في استقطاب غير موضوعي وغير مهني في التعامل مع الرد الإيراني، ليس حبا أو تعاطفا معها، إنما حبا وتعاطفا مع أنفسنا، وفي ضرورة امتلاك قراءة صحيحة لما جرى، حتى لو اختلفنا مع إيران ومع مشروعها السياسي كليا أو جزئيا.
إن الرد الإيراني كان دفاعا عن المصالح الإيرانية، ونفوذها الإقليمي، وليس مصالح العالم العربي، أو حتى القضية الفلسطينية التي تعلن كل يوم دعمها لها، فهي تستفيد منها لصالح مشروعها السياسي في المنطقة بعيدا عن الشعارات الأيديولوجية التي ترفعها.
ومن هنا، فإن الأمر يبدو غريبا، أن يهاجم البعض إيران؛ لأنها قامت بعملية محدودة ضد إسرائيل وفق حساباتها ودفاعا عن مصالحها، فهو أمر يخصها ولا يخص الآخرين، وهو لم يكن هجوما بسيطا، بل كان بالمعني النسبي كبير، وشمل 185 طائرة مسيّرة، و36 صاروخ كروز، و110 صواريخ أرض-أرض.
وعلينا أن نذكر، أن تكلفة الطائرة المسيرة الإيرانية الأكثر تطورا تصل إلى حوالي 10 آلاف دولار، في حين أن تكلفة الصاروخ الإسرائيلي من منظومة مقلاع داود الدفاعية يصل إلى مليون دولار، ومهما كان الدعم الهائل الذي تتلقاه إسرائيل من أمريكا، فإنها بلا شك مرت بليلة كالحة السواد، أصابت سكانها بهلع شديد، وكسرت هيبتها؛ لأنها دولة قامت على الاستثناء في كل شيء، فهي فوق القانون وفوق المحاسبة، وهي أيضا لا يجب أن تُقصف، أو تُستهدف مثل الدول الأخرى، حتى لو لم يصب أحد من سكانها.
تشكيك البعض في رد الفعل الإيراني وتسطيحه، يرجع في جانب منه لعدم وعيهم بتعقيدات “اللعب مع الكبار”، وأن الأمور على الساحة الدولية حين تصل إلى مواجهات مع القوى الكبرى، لا تكون أبيض وأسود، وإن ارتكاب أي دول متوسطة أخطاء كبيرة في الحسابات، تحولها إلى دولة مارقة، يسهل اصطيادها. مثلما جرى مع صدام حسين عقب غزوه للكويت، وخروجه عن الحد الأدنى الذي يستلزم التحلي به، حين دخل في مواجهة مع الكبار، فكانت النتيجة هزيمة كارثية بالضربة القاضية. فلو كانت إيران مكانه؛ لكانت احتلت فقط الشريط الحدودي محل النزاع مع الكويت، ودخلت في مفاوضات معها؛ لتحقيق بعض المكاسب في مقابل انسحابها، وليس شطب البلد من الخريطة الدولية، وضمها بالقوة الغاشمة إليها، كما فعلت العراق، وكان الطبيعي أن تأتي كل القوي الكبرى؛ لتحرير الكويت مدعومة بدول عربية وقرار أممي.
والحقيقة أن سياسة إيران، منذ دخولها في صدام مع أمريكا عقب ثورتها في ١٩٧٩، ثم مع الدول الغربية الكبرى، ودول الخليج؛ بسبب مشروعها النووي، وتدخلاتها في شؤون الدول العربية الداخلية، وهي لا تقطع شعرة معاوية مع أحد، وأن الدول التي تدخلت فيها بصورة خشنة، وارتكبت فيها من الخطايا الكثير، ربحت في مقابل ذلك أذرع لها، مثلت أوراق قوة، توظفها في أي صراع أو على طاولة المفاوضات.
ولذا لا يبدو الأمر غريبا لأي دولة، احترفت اللعب مع الكبار مثل إيران، (ومعها في الشرق الأوسط تركيا أيضا)، أن تقوم بإخبار أمريكا بموعد ضربتها، حتى تحتفظ بقنوات اتصال مفتوحة معها، وتطمئنها بأن العملية غير مؤذية تماما لإسرائيل، خاصة أن الأمريكان سيعرفون مسار الصواريخ، والمسيرات فور انطلاقها وربما قبلها.
هذا المستوى المركب في التعامل مع القوى الكبرى، هو أحد الشروط الرئيسية وراء استمرار إيران كدولة ممانعة فاعلة، لم تضرب ولم تكن نمرا من ورق مثل النظام السوري، الذي ضُربت مواقعه وقواته عشرات المرات من قبل إسرائيل، ولم يرد مرة واحدة.
شروط اللعب مع الكبار والدخول في أي مواجهة مع القوى الكبرى، وإسرائيل هي مندوبها المدلل والمحصن، يتطلب نمطا من التحرك، لا يقوم على القطيعة الكاملة والمواجهات الصفرية، إنما على الكر والفر ومكاسب بالنقاط، ولذا باتت إيران هي دولة الممانعة الوحيدة في الشرق الأوسط التي يتعامل معها العالم بجدية، واستمر نظامها “الثوري” رغم كل سلبياته الداخلية ٤٥ عاما.
لا يجب أن نخلط بين موقفنا النقدي من جوانب كثيرة سلبية في النظام السياسي الإيراني، ومن تدخلاتها في الشؤون العربية، وبين أنها تحسب حساباتها بدقة، وتدافع عن مصالحها بشراسة، حتى لو على حساب الآخرين.