“لن نسمح لإيران بفرض معادلة ردع جديدة.. وستظل سماء الشرق الأوسط مفتوحة أمام طائراتنا”.

كان ذلك التصريح لوزير الدفاع الإسرائيلي “يوآف جالانت” تعبيرا صريحا ومباشرا عن عمق المأزق الذي يعترض الدولة العبرية بين ضرورات الرد على الهجوم الإيراني، وخشية ردات الفعل المعاكسة.

الضرورات الإسرائيلية تقتضيها نظرية أمنها، التي انكسرت على يد المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر.

والخشية تستدعيها الضوابط الأمريكية لأي رد فعل إسرائيلي منتظر، حتى لا يجري الانزلاق إلى حرب إقليمية واسعة.

بظاهر التصريح فهو يطلب- أولا: أن يكون الردع شاملا لكافة دول المنطقة، ومحصورا فاعليته على إسرائيل وحدها.

سماء المنطقة كلها، لا إيران وحدها، حق حصري للطيران الإسرائيلي، ينتهك سيادات الدول، يقتل ويرتكب جرائم ضد الإنسانية دون حساب.

وهو يطلب- ثانيا: إجهاض أية تداعيات للهجوم الإيراني “المحدود” بأثره العسكري، لكنه “غير المسبوق” برسالته السياسية؛ خشية أن تتقوض هيبة إسرائيل وقدرتها على إخافة من حولها.

القضية لا تتعلق بإيران وحدها، بقدر ما هي تدخل في صميم حقائق القوة المستجدة في الشرق الأوسط بعد السابع من أكتوبر.

في ذلك اليوم اهتزت ثقة الجيش الإسرائيلي في نفسه، وتقوضت نظرية أمنه على نحو لا مثيل له، منذ خمسين سنة في أكتوبر (1973).

فقدت الدولة العبرية مهابة سلاحها أمام جمهورها وفي محيطها الإقليمي.

لهذا السبب بالذات هرعت الولايات المتحدة؛ لإرسال حاملتي طائرات، وألفي جندي مارينز على الفور إلى شرق المتوسط؛ لمنع أي طرف إقليمي، إيران و”حزب الله”، من “استغلال الوضع”، أو النيل من الحليف الإسرائيلي في لحظة انكشاف عسكري واستخباراتي واستراتيجي.

كان ذلك ردعا بالنيابة.

وقد بدا الهجوم بمئات المسيرات والصواريخ الباليستية على إسرائيل من داخل الأراضي الإيرانية رسالة محملة بالحقائق الجديدة، أن معادلة الردع التي استقرت لعقود طويلة كسرت للأبد، وأن إسرائيل لم تعد محصنة ضد القصف من خارج أراضيها.

على نحو يقارب نهج طهران في التفكير والتخطيط والتنفيذ، الذي استبق عمليتها الانتقامية، تحاول إسرائيل الآن، أن يكون ردها محكوما باعتبارين مماثلين: أولهما- أن يكون “حازما وقويا”.. وثانيهما- أن يأتي “مركزا ومحدودا، ولا يفضي إلى حرب واسعة”.

كان النهج الإيراني معلنا ونواياه واصلة إلى الولايات المتحدة للتحكم في ردات الفعل.

لم تكن طهران مستعدة للتساهل في استهداف قنصليتها في دمشق، وقتل قادة كبار من الحرس الثوري، دون أدنى استعداد للتورط في حرب إقليمية.

التساهل يقوض هيبتها الإقليمية وأمام شعبها.. والتورط عواقبه وخيمة على مصالحها وتصوراتها لمستقبلها.

في اجتماعات متتالية بحث مجلس الحرب الإسرائيلي سبل الرد، مواقعه وحدوده ومدى تأثيره على مصالح، وتصورات الحليف الأمريكي، الذي تولى التصدي لأغلب المسيرات والصواريخ الإيرانية خارج مجالها الجوي.

لمرات عديدة وبطرق مختلفة، أكد الأمريكيون، أنهم ملتزمون بأمن إسرائيل والدفاع عنها، لكنهم لن يشاركوا في أي عملية هجومية ضد إيران.

بالوقت نفسه طالبوا أن يخطروا مسبقا بأية عملية إسرائيلية، طبيعتها وحدودها، حتى لا تفلت الأوضاع في الشرق الأوسط، ويحدث انزلاق لحرب إقليمية، لا تريدها واشنطن.

بالحساب الأمريكي، قد يكون من صالح إسرائيل أن تتجاوز فكرة الانتقام بالاستثمار السياسي في الهجوم الإيراني؛ لترميم صورتها المتدهورة في العالم بأثر جرائم الإبادة الجماعية، والتجويع المنهجي واستهداف المستشفيات وطواقهما الطبية.

بالحساب الإسرائيلي، فإنها تريد الدورين معا، المنتقم والضحية.

تحسين الصورة يأتي في مرتبة تالية بعد استعادة الهيبة التي تقوضت.

إسرائيل سوف تقدم لا محالة على عملية عسكرية محكومة بأهدافها وحدودها في الأراضي الإيرانية، أو خارجها بمواقع حليفة، دون أن تتهم بأنها طرف في مسرحية هزلية!

إنها حسابات المصالح والاستراتيجيات المتداخلة، التي تستبعد أي تورط في حرب إقليمية واسعة.

قضية إسرائيل الأولى في هذه اللحظة استعادة هيبتها، التي كسرتها المقاومة الفلسطينية في غزة، حيث لم تستطع رغم مرور أكثر من ستة أشهر على الحرب من تحقيق أيا من هدفيها الرئيسيين، اجتثاث حركة “حماس”، واستعادة الرهائن والأسرى بلا أثمان سياسية باهظة.

بصياغة أخرى تطلب استعادة معادلة الردع في الشرق الأوسط كله، لا مع إيران وحدها.

المعضلة الكبرى حجم ونوعية الرد الإيراني هذه المرة على أي هجوم إسرائيل منتظر.

إيران حاضرة بقوة الردع في المعادلة الجديدة.

لا قصف طهران نزهة للطيران الإسرائيلي، ولا استهداف منشآتها النووية مسألة متاحة.

لكل إجراء ما يردعه.

أكدت طهران مرارا وتكرارا، أن أي هجوم إسرائيلي سوف يقابل على الفور برد واسع وأكبر، يستخدم هذه المرة أسلحة وصواريخ أكثر تقدما مما استخدم في العملية الانتقامية الأولى.

الأمريكيون لا يشكون في جدية التعهد الإيراني، والإسرائيليون يتحسبون لردة الفعل المباشرة.. وإيران شبه مجبرة على الوفاء بتهديداتها.

إنها لغة الردع، عندما تكتسب صدقيتها.

التلويح بذاته تعبير عن قواعد اشتباك جديدة ومعادلات ردع مختلفة.

تنبهت تركيا لأهمية “الإنجاز الإيراني”، انحازت إليه رغم إرث الصراعات والأزمات التاريخية والحالية بين البلدين.

إنه إدراك لما سوف يعود عليها من مصالح وأدوار، إذا ما فرضت التوازنات الإقليمية الجديدة كلمتها الأخيرة.

بدأت إعادة التمركز بالصراع الوجودي في المنطقة، وكانت رسالة الرأي العام حاسمة في الانتخابات البلدية التي خسرها الحزب الحاكم على خلفية الموقف من الحرب في غزة، والأزمة الاقتصادية المستحكمة.

أوقفت إمداد إسرائيل ببعض متطلباتها العسكرية، ولم تأبه للاعتراضات الإسرائيلية، التي استدعت توترا ومشاحنات.

بالوقت نفسه بدا العالم العربي منقسما ومشوشا إلى حد بعيد.

أغلبيته الشعبية الكاسحة ببوصلة القضية الفلسطينية تؤيد وتدعم إيران.

وأغلبيته الرسمية ضدها بالمشاركة الفعلية في صد الهجوم على إسرائيل، أو بدعوات ضبط النفس، التي تناثرت في كافة الأنحاء دون معنى أو دور.

في العالم العربي هناك من يزعجه أن تكتسب إيران قدرة الردع، أو أن تفرض نفسها لاعبا مؤثرا في حسابات القوى، والمصالح والنفوذ بأي حساب استراتيجي.

لأي دور تكاليفه وأثمانه.

لا يمكن أن تكون فاعلا ومؤثرا وكلمتك مسموعة، ما لم يكن قرارك متسقا مع مصالح بلادك العليا.

هذه حقيقة لا يمكن نفيها، أو الاستخفاف بها.

في مقبل الأيام فإن الصراعات الإقليمية سوف تشتد على محورين متلازمين، مستقبل القضية الفلسطينية، التي أثبتت دوما، أنها قضية القضايا في الإقليم ومقياس أوزان الأدوار والدول، ومستقبل الإقليم كله وموازين القوى والمصالح فيه.

ذلك الصراع يدخل في صميم المصالح الاستراتيجية العليا لمصر وأمنها القومي المباشر.

أسوأ مقاربة ممكنة الاستغراق في أحاديث المؤامرات والمسرحيات الهزلية، دون إدراك جدي للحقائق والتحديات الماثلة.

بعض دواعي الخلاف مع إيران لها منطقها وأسبابها، غير أن خلط الأوراق قضية أخرى، تستدعي أكثر درجات الحذر، حتى لا نحارب بالنيابة معركة إسرائيل المهزوزة!