مع اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية تتجدد التساؤلات حول مستقبل حقوق الإنسان في السياسات الخارجية للرئيس الأمريكي القادم، خاصة تجاه الشرق الأوسط.

لطالما حظي الشرق الأوسط على مكانة فريدة في السياسات الخارجية الأمريكية مقارنة بمواقع جغرافية أخرى؛ نظرا لتجذر المصالح الاستراتيجية لواشنطن في المنطقة.

وترتب على هذا بناء علاقات وثيقة بين واشنطن والنظم السلطوية في المنطقة.

تلك العوامل جعلت الإدارات الأمريكية باختلاف انتمائتها الحزبية– ولكن بدرجات مختلفة- متحفظين للغاية؛ كيلا يزعجوا أصدقاءهم السلطويين والأوتوقراطيين، ما ساهم في إهدار حقوق مواطني الدول المختلفة في منطقتنا.

تعدد المصالح الأمريكية 

يمثل الشرق الأوسط منطقة حيوية، تتركز فيها عدة مصالح استراتيجية للولايات المتحدة. يمكن تلخيصها في نقاط أساسية، أولا: لطالما حرصت واشنطن على ضمان تدفق نفط الشرق الأوسط إليها؛ بسبب حاجة اقتصادها إلى النفط القادم من المنطقة، وهذا النمط تغير في السنوات الأخيرة، حيث انخفض اعتماد الولايات المتحدة على نفط الشرق الأوسط، فاصبح يمثل 10% فقط من واردات الولايات المتحدة، بينما تأتي باقي الواردات من النصف الغربي من الكرة الأرضية.

ورغم هذا، تظل الـ 10% نسبة لا يستهان بها بالنسبة للاقتصاد الأمريكي، كما أن وجود بعض أكبر الدول المصدرة للنفط في العالم في منطقة الشرق الأوسط، يجعل استقرار إمدادات النفط القادمة من المنطقة محوريا لاستقرار الاقتصاد، والأسعار العالمية.

ثانيا: تولي واشنطن اهتماما خاصا بضمان أمن إسرائيل، و ترى أن الشراكة الاستراتيجية التي جمعتها مع إسرائيل لعقود طويلة حمت المصالح الأمريكية في المنطقة، بدءا من ردع النفوذ السوفيتي وصعود النظم العربية القومية المعادية لواشنطن خلال الحرب الباردة، إلى مواجهة الجماعات الإرهابية الإسلامية وتوسع النفوذ الإيراني في الحاضر.

ثالثا: إسرائيل ليست الدولة الصديقة الوحيدة لواشنطن في المنطقة، فالعديد من الأنظمة الأوتوقراطية والسلطوية العربية، تربطها علاقات أمنية واستراتيجية متينة بالولايات المتحدة، وحماية استقرار تلك الأنظمة يساهم في حماية مصالح واشنطن، وضمان استقرار المنطقة.

رابعا: تمثل تلك الأنظمة بعض أكبر مشتري السلاح الأمريكي في العالم، مما يدخل مليارات الدولارات إلى الاقتصاد الأمريكي سنويا.

خامسا: تتواجد في بعض تلك الدول قواعد عسكرية أمريكية تهدف؛ لحماية طرق التجارة في المنطقة، والحفاظ على استقرار تلك الانظمة الحليفة.

وأخيرا: تسعى الولايات المتحدة لمواجهة الأخطار الأمنية القادمة من المنطقة، خاصة الجماعات الإرهابية مثل داعش والقاعدة، إضافة إلى وكلاء إيران.

من الصمت للتنديد

تلك العوامل جعلت  الإدارات الأمريكية، تضع استقرار الشرق الأوسط على رأس أولوياتها الخارجية، لكن نشر حقوق الإنسان خارج البلاد من المفترضأ إن يمثل جزءا أساسيا من البنيان السياسي الأمريكي، فالقانون الأمريكي ينص على أن حماية ونشر الديمقراطية وحقوق الإنسان من الأهداف الأساسية للسياسة الخارجية الأمريكية.

لكن كما هو جلي، أن هناك تناقضا واضحا بين دعم الولايات المتحدة للأنظمة الأوتوقراطية في المنطقة من جهة، وبين نشر حقوق الإنسان والديمقراطية من جهة أخرى.

لقد مثلت إدارة ترامب النموذج الأكثر رعبا، فيما يتعلق بالتعامل مع انتهاكات حقوق الإنسان في المنطقة، حيث أعطى ترامب الضوء الأخضر للأنظمة السلطوية في المنطقة لانتهاك حقوق الإنسان كما تشاء.

تجاهلت سياسة ترامب الخارجية قضايا حقوق الإنسان بشكل شبه كامل، وأعطت أولوية قصوى للمصالح التي تربط واشنطن بتلك الأنظمة، فعلى سبيل المثال، قال ترامب– خلال رئاسته- أنه لن يقطع العلاقات مع الرياض؛ نظرا للمصالح الاقتصادية المشتركة مثل السلاح والنفط.

كما عبر ترامب عن إعجابه وصداقته بقادة أوتوقراطيين في المنطقة، ثم جاء بايدن ليخلف ترامب في رئاسة البيت الأبيض، ووعد بإعادة حقوق الإنسان الى مركز السياسة الخارجية الأمريكية، وأكد بأنه لن يكون هناك شيكات على بياض للأنظمة الأوتوقراطية، وأنه على استعداد لإعادة تقييم العلاقات مع تلك الدول.

وبالفعل دانت إدارة بايدن انتهاكات حقوق الإنسان التي تمارسها الأنظمة الأوتوقراطية الحليفة لواشنطن في الشرق الأوسط، وهاجمت تلك الأنظمة علنا، وهو ما يمثل تحسنا ملحوظا مقارنة بعهد ترامب.

لكن السياسة الخارجية لبايدن لم تتعد التنديد، فتلك الانتقادات بشأن أوضاع حقوق الإنسان، لم تصاحبها سياسات حازمة تجاه الأنظمة المنتهكة للحقوق في المنطقة.

لم يفرض بايدن عقوبات، ولم يوقف مساعدات أو صفقات سلاح مع الأنظمة الحليفة في الشرق الأوسط، وعندما حدث ذلك، كانت حالات نادرة ومؤقتة، فكان تأثيرها ضعيف.

لم يحدث تحول جذري في أوضاع حقوق الإنسان في المنطقة، ورصدت تقارير الخارجية الأمريكية بشأن حقوق الإنسان- الصادرة خلال عهد بايدن- استمرار انتهاكات حقوق الإنسان في الشرق الأوسط، بل ورصدت تفاقم الانتهاكات، ولكن، ورغم موضوعية تقارير الخارجية الأمريكية، ظلت غير مؤثرة على السياسة الخارجية الأمريكية؛ بسبب وضع الإدارات الأولوية للمصالح الاستراتيجية، وليس حقوق الإنسان.

الشرق الأوسط: حالة خاصة رغم المحاولات

فرضت إدارة بايدن عقوبات على دول ومسؤولين من مناطق جغرافية أخرى مثل، روسيا والصين وماينمار وبيلاروسيا وإثيوبيا وغيرها، بسبب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وهو ما يعبر عن وجود نوع من الالتزام بشأن حقوق الإنسان عند الإدارة الأمريكية، لكن المعاملة لم تكن المعاملة بالمثل تجاه الأنظمة الصديقة في الشرق الأوسط، رغم أنها أنظمة تنتهك حقوق الإنسان بشكل مروع.

السبب هنا واضح، فالإدارة الأمريكية تستخدم سياساتها الخارجية الحازمة تجاه الدول المنتهكة للحقوق في حالتين، الأولى أن تكون واشنطن في حالة عداء أو منافسة مع الدولة، والثانية، ألا تكون لواشنطن مصالح استراتيجية حقيقية في الدولة.

ولأن الانظمة السلطوية الصديقة لواشنطن في الشرق الأوسط لا تدخل في إطار هاتين الحالتين، لا تطالهم مثل تلك السياسات.

الموقف الأمريكي السائد يرى أن دعم النظم السلطوية في الشرق الأوسط أساس للحفاظ على المصالح الأمريكية، وعلى النقيض هناك اتجاه آخر في الولايات المتحدة، يرى أن الحفاظ على استقرار الشرق الأوسط والمصالح الأمريكية سيأتي عن طريق نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان.

ويجادل هذا الرأي، بأن غياب الديمقراطية وحقوق الإنسان أدى إلى خلخلة استقرار المنطقة والإضرار بالمصالح الأمريكية (مثل الانهيارات السياسية والاقتصادية في سوريا واليمن ولبنان وليبيا). إضافة إلى أن غياب الديمقراطية أدى إلى فشل اقتصادي في بلدان المنطقة؛ مما سبب ارتفاع نسب البطالة والهجرة غير الشرعية، فضلا عن التظاهرات التي تندلع بشكل متكرر ضد تلك الأنظمة احتجاجا على الأوضاع.

و هناك أعضاء في الكونجرس – خاصة من الحزب الديمقراطي– يظهرون التزاما واضحا بقضايا حقوق الإنسان ويحاولون تمرير قوانين، أو الدفع بقرارات من أجل الضغط على الإدارة الأمريكية؛ لتأخذ مواقف حازمة تجاه انتهاكات حقوق الإنسان في الشرق الأوسط.

ولكن يظل تأثير هذا الاتجاه محدودا، حيث أن الإدارات الأمريكية في النهاية تتجنب اتباع سياسة حازمة تجاه النظم الحليفة في الشرق الأوسط.

نتائج الانتخابات وسقف التنديد

الموقع المحوري الذي يحتله الشرق الأوسط في دفتر المصالح الأمريكية، يجعل الإدارات الأمريكية تتعامل بحرص، وتحفظ شديد، فيما يتعلق بحقوق الإنسان، فالاتجاه السائد في واشنطن يرى أن دعم استقرار النظم الاوتوقراطية والسلطوية الصديقة في الشرق الأوسط هو مفتاح استقرار المنطقة، وحماية المصالح الأمريكية.

انعكس هذا على إدارتي ترامب وبايدن بدرجات مختلفة، فجسد ترامب النموذج الاكثر تطرفا وترويعا، و|أتاح إهماله لقضايا حقوق الإنسان للأنظمة السلطوية الصديقة للولايات المتحدة في المنطقة انتهاك هذه الحقوق، دون رقابة أو قيود أو خوف من العواقب.

ثم جاء بايدن بوعد إعادة حقوق الإنسان إلى السياسة الخارجية لواشنطن، لكنه اكتفى بنقد تلك الأنظمة والتنديد بالانتهاكات، فالمصالح الاستراتيجية لواشنطن في الشرق الأوسط حمت تلك الأنظمة، من أن تطالها سياسات حازمة ذات ضغط وتأثير حقيقي.

أصبح واضحا أن المنافسة في الانتخابات الأمريكية القادمة ستكون بين ترامب وبايدن، وبقراءة تاريخيهما، يمكن استشفاف كيف سيتعامل كل منهما مع الأنظمة السلطوية الحليفة لواشنطن في الشرق الأوسط عقب الفوز.

السيناريو الأسوء سيكون فوز ترامب، فوجوده في البيت الأبيض سيطلق يد سلطويات وأوتوقراطيات الشرق الأوسط بلا قيد، أما إن فاز بايدن، فيعني أنه على الأرجح ستستمر أوضاع حقوق الإنسان على حالها، كما هي الآن، تكتفي الإدارة الأمريكية بالتنديد والضغط الرمزي على الحلفاء. دونما مخاطرة بالمصالح الأمريكية في المنطقة.

ويبقى فوز بايدن السيناريو الأقل سوءا، على اعتبار أن التنديد هو سقف المؤسسة الأمريكية السائدة، فيما يتعلق بحماية حقوق الإنسان في الشرق الأوسط.