لم تكن منطقة الشرق الأوسط في أي وقت مضى أقرب إلى اندلاع حرب إقليمية من هذه الأيام، وذلك بسبب التصعيد القتالي المباشر بين كل من إسرائيل وإيران، منذ الغارة الجوية الإسرائيلية على القنصلية الإيرانية في دمشق، والتي قتل فيها سبعة ضباط إيرانيين، منهم محمد رضا زاهدي قائد الحرس الثوري الإيراني في سوريا.

لكن مع ذلك فكل الشواهد تشير إلى حرص كافة الأطراف- وبتصميم قوي- على تفادي الانزلاق إلى حرب إقليمية، تنخرط فيها الدول وجيوشها النظامية، جنبا إلى جنب مع الميليشيات النشطة عسكريا في هذه الآونة، وأغلبها موال لإيران بالطبع.

قد لا يصدق هذا القول على إسرائيل وحدها التي ترى-أو ترى حكومتها- لنفسها مصالح استراتيجية مؤكدة في اتساع المواجهات الحالية في غزة والضفة والجبهة الشمالية، حيث تستمر المناوشات مع حزب الله اللبناني بصفة يومية، هذه المصالح منها، ما هو سياسي داخلي، ومنها ما هو متعلق بالموقف الدولي.

فمن ناحية يضمن الصراع الساخن المفتوح مع إيران للائتلاف الحاكم في إسرائيل، وعلى رأسه بنيامين نتنياهو ترحيلا لكل الضغوط على الحكومة، سواء من الرأي العام أو من أحزاب المعارضة إلى أجل غير مسمى، وهي الضغوط التي انطلقت من الفشل السياسي والعسكري والاستخباراتي في مواجهة مفاجأة عملية طوفان الأقصى، التي قامت بها حماس يوم السابع من أكتوبر الماضي، وكانت تلك الحكومة اليمينية المتطرفة تتعرض من قبل طوفان الأقصى إلى ضغوط شعبية وحزبية قوية ومستمرة؛ بسبب ما تسميه بالإصلاح القضائي، الذي يراه المعارضون تقويضا لمبدأ استقلال القضاء، وتهديدا للديمقراطية، كل ذلك مضافا إليه المصالح الشخصية لنتنياهو الذي يستجوب في قضايا فساد ورشوة.

وبالتأكيد، فإن حربا إقليمية تكون إسرائيل طرفا رئيسيا فيها، سوف تعيد إليها الحجم الكبير المفقود من التعاطف الشعبي والرسمي في أوروبا وأمريكا؛ بسبب أدائها الإجرامي في الحرب غير المتكافئة في قطاع غزة طوال ستة أشهر، وضحاياها المدنيين، خاصة الأطفال والنساء وكبار السن، بأعداد تشكل جريمة إبادة جماعية، كما أن اندلاع حرب إقليمية سيؤدي تلقائيا إلى تراجع الاهتمام العالمي والإعلامي بحرب غزة لمرتبة متأخرة، مثلما أدت عملية طوفان الأقصى، وإعلان إسرائيل الحرب على حماس وعلى غزة إلى تراجع الاهتمام الإعلامي والسياسي العالمي بالحرب الروسية الأوكرانية إلى مرتبة تالية، بعد أن كانت تحظى بالأولوية المطلقة.

هذا عن مصلحة إسرائيل بوصفها الطرف الوحيد الذي لا يمانع في اتساع نطاق البؤر الساخنة حولها إلى حرب إقليمية واسعة النطاق، ومن ثم يكون السؤال التالي هو: إذن لماذا لم تقم إسرائيل بهجوم شامل على خصومها مثل، حزب الله أو الجمهورية الإيرانية يؤدي إلى اشتعال الحرب الإقليمية المنتظرة؟ أو بصياغة أخرى لماذا تلتزم إسرائيل بردود أو بمبادرات عسكرية محدودة على الجبهتين اللبنانية والإيرانية؟ والإجابة المؤكدة هي الممانعة أو المعارضة الأمريكية لمثل هذا العمل العسكري الإسرائيلي، الذي يشعل المنطقة، ويجر الولايات المتحدة نفسها إلى ساحة أو ساحات المعركة، بما ينطوي عليه ذلك من مخاطر جمة، وبالغة التأثير على المصالح الأمريكية.

صحيح أنه من ناحية ميزان القوة العسكرية المجردة، فلا مجال للمقارنة بين الولايات المتحدة وإيران، ولكن هذا لا يمنع من قدرة إيران وحلفائها في العراق ولبنان واليمن على إلحاق أضرار جسيمة ومؤلمة بالوجود الأمريكي، وسائر المصالح الأمريكية، بما لا يستطيع أي رئيس أمريكي (أو حزب )، أن يتحمله من الناحية السياسية، خاصة في عام انتخابات رئاسية وتشريعية، مثل العام الحالي، والأمثلة القريبة إلى الذهن علي سبيل المثال، إمكان استهداف القواعد الأمريكية المنتشرة في منطقة الخليج، وإمكان ضرب المصالح الأمريكية في العراق وحوله، فضلا عن إمكان تهديد الملاحة في مضيق هرمز، وتكثيف الهجمات الحالية على الملاحة قرب باب المندب، وكلا الاحتمالين سيتسبب في مشكلات حادة لتجارة النفط وسوق الطاقة العالمية.
وإذا أضفنا إلى ذلك احتمال استهداف إسرائيل للمنشآت النووية الإيرانية في غمار تلك الحرب الإقليمية، (الافتراضية حتى الآن)، فليس بوسع أحد التنبؤ بمدى الكارثة التي قد تنتج عن تسرب إشعاعي وغير إشعاعي، وهي كارثة حذرت منها الوكالة الدولية للطاقة النووية صبيحة هجوم المسيرات والصواريخ الإيرانية على إسرائيل، وسط توقعات برد إسرائيلي محتم، فطالبت الوكالة بعدم اتخاذ المنشآت النووية هدفا حربيا في النزاعات الدائرة في المنطقة.
ليست الولايات المتحدة وحدها هي الطرف الرئيسي المفترض في حرب إقليمية الذي يرفض نشوب مثل هذه الحرب، إذ أن إيران نفسها هي أيضا تتجنب الاندفاع أو الاستدراج لهذا الاحتمال الكارثي، ومن ثم فهي تحرص على إبقاء قواعد الاشتباك مع إسرائيل عند حدودها الدنيا الحالية، وتكتفي بالردع المحدود في مواجهة احتمال تدخل عسكري أمريكي، على نحو ما أشرنا قبل قليل، فالجمهورية الإيرانية تدرك قبل غيرها، أن موازين القوة المجردة ليست في صالحها، وأن أحوالها الاقتصادية لا تتحمل حربا موسعة ومطولة، فضلا عن اليقين بأن اندلاع حرب مباشرة بينها وبين إسرائيل، سيعني بالتأكيد تدخلا أمريكيا مباشرا لصالح إسرائيل، وقد لا يقتصر هذا التدخل على المستوى الدفاعي، كما جرى في مواجهة هجوم المسيرات والصواريخ الأخير على إسرائيل، ولكن الاحتمال كبير جدا، أن يتطور التدخل الأمريكي- في هذه الحالة- إلى المستوى الهجومي ،الذي ستكون إيران فيه هي الطرف الأكثر خسارة، حتى وإن ألحقت بعض الأضرار المؤثرة بالداخل الإسرائيلي، وبالمصالح الأمريكية في الإقليم.

كذلك من المؤكد، أن بقية الأطراف في الإقليم، سواء الدول أو حتى الميلشيات، لا مصلحة لها في حرب إقليمية، تفرض عليها أو تستدرج إليها، فيما تعاني بعض هذه الأطراف أصلا من أزمات سياسية أو اقتصادية متلاحقة، وينخرط بعضها الآخر في جهود إصلاح وتنمية، فأي مصلحة للبنان أو العراق أو مصر أو السعودية مثلا في مثل هذه الحرب.
عند هذا الحد ينبغي الانتباه، إلى أن استبعادنا لنشوب حرب إقليمية بين إسرائيل وبين إيران، والميليشيات المتحالفة معها ،يعني بالضرورة استبعاد حرب عالمية، تشارك فيها قوى كبرى ضد الولايات المتحدة، التي رأينا توا، أنها قد تتدخل فيها دفاعيا وهجوميا، ومن الناحية النظرية، فلن يكون من مصلحة الصين (باعتبارها قوة عالمية مناوئة للهيمنة الأمريكية) الانخراط في مثل هذه المواجهة؛ من أجل إيران، وإلا كانت قد أقدمت على عمل عسكري على جبهة تايوان التي تهمها- كجزء منها- أكثر بكثير مما تهمها إيران.
وينطبق هذا الرأي على روسيا أيضا، ليس فقط بسبب انشغالها بالحرب ضد أوكرانيا، ولكن أيضا فلا مصلحة كبرى روسية مهددة في الشرق الأوسط، أو الخليج من حرب إقليمية في المنطقة، يكون طرفاها إيران وإسرائيل، مع احتمال التدخل الأمريكي الساخن فيها.

هذه كلها حسابات رشيدة، ومؤشرات موضوعية، تستبعد حتما، تغير قواعد الاشتباك المنضبطة حاليا في الإقليم، بما يهدد باندلاع حرب نظامية… مباشرة وشاملة، لكننا لا نستطيع التيقن من استبعاد وقوع تلك الحرب نهائيا عن طريق الخطأ، على الأقل نظريا .