لا يوجد سبب واحد، يبرر الهجمة الجديدة ” القاضية” التي تنوي الدولة شنها، ضد مقابر الإمام الشافعي، بعد أن خرجت تقارير صحفية، تؤكد أن هناك مطالبات أرسلت، لمن يعملون في هذه المنطقة بعدم دفن أي متوفيين جدد، كما طالبت مُلاك هذه المقابر بنقل ذويهم إلى أماكن أخرى.

وكانت الحكومة قد هدمت مقابر تاريخية وغير تاريخية في منطقة السيدة عائشة، والإمام الشافعي والسيدة نفيسة رغم معارضة شعبية واسعة، ورفض حاد من معماريين مصريين ومؤسسات دولية كثيرة لعمليات الهدم.

وقد قررت الدولة في مثل هذا الوقت من العام الماضي وقف الهدم، وشكلت لجنة من الخبراء؛ لبحث مشكلة مقابر الإمام الشافعي، وأوصت اللجنة بعدم استكمال الهدم، وقالوا إن المحور الذي تنوي الحكومة إقامته، سيوفر من ٤ إلى ٦ دقائق، وتوجد بدائل له.

وعادت الدولة الأسبوع الماضي؛ لتعلن وفق تقارير صحفية موثقة، إنها تنوي استكمال مسلسل هدم مقابر أثرية، وأخرى تاريخية وغير تاريخية في منطقة الإمام الشافعي، التي تضم كنوزا معمارية حقيقية لصالح بناء محور قبيح ومحدود الفائدة.

والحقيقة أن عملية إزالة المقابر بدأت منذ ثلاثة أعوام، ثم توقفت العام الماضي، وعادت بقوة حاليا، وشملت 98 مقبرة، أزيل بعضها بالفعل، وضمت مقابر لعلماء طب (د. على إبراهيم مؤسس كلية طب القصر العيني في مصر)، وشعراء (أحمد شوقي) وضباط عظام محمود سامي البارودي، ورجال دين وشخصيات من العائلة المالكة، وهو ما وصفه أحد كبار المعماريين المصريين، بأنه “محو لحقبة من تطور العمارة الجنائزية في مصر، والاستيلاء علي القطع الثمينة التي تحتويها من تركيبات رخامية أو حجرية وشواهد فريدة، تحمل أجمل نماذج الخط العربي في أكبر عملية قرصنة، عرفتها مصر في تاريخها”.  كما اعترض ديوان المعماريين، وهي جمعية مستقلة، تضم أمهر المعماريين المصريين، كما تأسست جمعيات أخرى؛ لمقاومة عمليات الإزالة. أحدها، حمل عنوان “أنقذوا جبانات مصر من الزوال”، وتم مخاطبة كل المسئولين في الدولة؛ لوقف هذا التخريب.

ويبدو إصرار الدولة على استكمال عمليات الهدم غريبا وصادما، رغم أن البديل ليس مشروع “حياة أو موت” للشعب المصري، إنما مجرد محور لن يستفيد منه أغلب المصريين، بما فيهم قادة السيارات.

والحقيقة أن هذا الإصرار يرجعه البعض؛ لتغول بيزنس الشركات المرتبط بالطرق والكباري والمحاور، والتي صارت تبني بشكل متكرر كباري ومحاور وطرقا معظمها غير مفيد، ولا يمثل قاعدة إنتاجية، بل أن بعض الكباري صارت تمثل عبأ مروريا، بعد أن “بدرت” الدولة مقاهي ومحلات قبيحة أسفلها؛ فعطلت من حال المرور أكثر، مما حلت.

وهناك من يعتبر أن الحكم الحالي أو عصر الجمهورية الجديدة يرغب في تثبيت ليس فقط هوية نظامه السياسي والاقتصادي، إنما أيضا “هويته العمرانية” بخلق هوية بصرية جديدة للقاهرة، ومختلف المدن المصرية، وإحداث “قطيعة بصرية” مع الصور التي توارثتها الأجيال عن شكل القاهرة التاريخية.

إن صور كورنيش قاهرة أفلام الأبيض والأسود، حيث عربات الذرة المشوي و”حمص الشام” والسميط والأشجار القديمة مطلوب تبديلها بـ “ممشى أهل مصر”، حيث صور المقاهي والمطاعم الفخمة “ورسم مشي”٢٠ جنيها، وزرع أشجار قصيرة وتدمير القديمة الفارعة التي نمت على مدار، ما يقرب من قرنين، وتم قطعها، مثلما جرى في كورنيش العجوزة.

هدم جانب مهم من المقابر التاريخية، هو محاولة لتأسيس هوية بصرية جديدة للمدينة، تختلف عما شاهدناه منذ قرون، ولسان حال الحكم يقول، إن الناس لا تتذكر كيف كان عليه حال القاهرة قبل بناء “القاهرة الخديوية”، وبالتالي فإن الناس ستنسى مع الوقت شكل قاهرة الإمام الشافعي، وستتذكر الهوية الجديدة المرتبطة بكباري ومحاور العهد الجديد.

هذا التفسير مشكلته، إنه ينسى أو يتناسى، أن هذه الهوية البصرية الجديدة التي تسعي الدولة لفرضها حاليا، تأتي في ظل عصر يختلف عن عصر الخديوي إسماعيل، ليس فقط من زاوية وجود وسائل التواصل الاجتماعي وثورة الاتصالات، إنما لأن كل من أسسوا في عالمنا المعاصر (وليس العصور السابقة) شرعيتهم “العمرانية” على أساس بناء الجديد، وخلق هوية بصرية جديدة لمدنهم، فعلوها في الصحراء وفي الخلاء أو الأراضي البكر لا بهدم تراثهم القديم، إنما حافظوا على كل ذرة من تراب مبانيهم وتراثهم القديم، وفي بعض الحالات حين هدم هذا التراث نتيجة الحرب، كما جرى مع وسط مدينة العاصمة البولندية “وارسو”، استخدمت الدولة تقنيات حديثة؛ لإعادة بناء وسط المدنية مرة أخرى، كما كان سابقا، واحتفظوا بأدق تفاصيل الشكل القديم، ولم يفكروا للحظة في بناء أبراج ضخمة مكانه؛ لأنها ستحقق لهم مكاسب أكبر، إنما أنفقوا المليارات للحفاظ على الهوية التاريخية والبصرية لعاصمتهم.

وفي عالمنا العربي سنجد بلدا مثل، المغرب معظم مدنه الكبرى من الرباط مرورا بمراكش، وحتى فاس محاطة بسور حول، ما يعرف “بالمدينة العتيقة”، واحتفظ بمبانيها القديمة، دون مساس أو تغيير منذ قرون عديدة، كما لا يمكن لأحد أن يذهب لمنطقة السلطان أحمد في إسطنبول، ويجد مقبرة قد أزيلت أو مبنى قديم، هدم من أجل توسيع طريق أو بناء كوبري، فقد ظلت معالمها كما هي، لا تتغير عبر عقود، وتم الحفاظ على الهوية البصرية للمدنية.

إن حرص كل بلاد الدنيا شمالا وجنوبا عربا وعجما على الحفاظ على مبانيهم ومقابرهم وأحيائهم القديمة، هو الأصل، ويحدث الهدم في أضيق حدود وبشكل استثنائي وفي أماكن، لا تصنف بالتاريخية مثل مقابر الإمام الشافعي.

مطلوب أن توقف الدولة كل مشاريع استكمال هدم المقابل التاريخية، وغير التاريخية في الإمام الشافعي وفي أي مكان على أرض مصر، وأن تبدأ في الاستجابة لآراء الناس وأهل العلم والخبرة.